يوميات امرأة شامية في فرنسا: تناقضات اللجوء

يوميات امرأة شامية في فرنسا: تناقضات اللجوء

05 اغسطس 2022
+ الخط -

بعد عناء طويل، وصلت إلى الأراضي الفرنسية، شتتني صراع مرير مع فكرة الحدود والفيزا والدخول والخروج والبصمة، خاصة بعدما عانيت كثيراً من مشكلة انتهاء صلاحية جواز السفر وتجديده.

وبعد أن بات الوصول إلى أراضي أوروبا يعني الولادة من جديد بعد موت سقيم، صارت عبارة (سأعود) وحدها مبرراً لاتهامي بالجنون وقلة المعرفة.

فور وصولي، واجهني أبنائي بحجز جواز سفري! لم أكن أتوقع عنفاً كهذا يصدر منهم تجاهي، في لحظة لم أتوقعها تملّكني شعور بالاحتجاز.

اتصل بي الكثير من الأصدقاء مرحبين ومرحبات بقدومي، وفاجأني أن الجميع قد أجّلوا دعوتهم لي لزيارتهم أو قدومهم لزيارتي، وكانوا يرددون عبارة واحدة: سنراك بعد أن تشبعي من أولادك! إذن الجميع واثق من أنني باقية هنا ولن أعود!

بعدها، أقلعت نهائياً عن ذكر عبارة (سأعود)، واستسلم الأصدقاء والأقارب لفكرة أنني مقيمة هنا إلى آخر العمر، أما أنا فتماشيت مع قرار أبنائي بتنفيذ برنامج سياحي تزامن فيه وقت قدومي مع موعد إجازتهم السنوية.

بعبارة حاسمة قالوا لي: انسي كل شيء، أنت الآن سائحة! وافقت، تلبست وجه السائحة، وقررت أن أكتشف العالم، إنها فرصة لن تتكرر، هكذا قلت في نفسي، وصدقوني فرحين بمقدرتهم العجائبية على تحويلي لسائحة بقرار حاسم منهم.

في كل مكان زرناه كنت أفتح باب المقارنة واسعاً مع أجزاء من بلدي التي تشبه أوروبا لكن ينقصها العناية والاهتمام، لكن أبنائي توافقوا على إغلاق كل أبواب المقارنة في وجهي، يبدو أنهم قد عقدوا العزم على عزلي جغرافياً وزمانياً وعاطفياً عن الشام، تجاهلوا كلامي مرات ومرات، فتحوا أحاديث مغايرة، دفعوني وحيدة إلى الماء كي أسترخي كما ادعوا، دخلوا في قيلولة كاذبة ليسكتوني.

شكوت همي لصديقتي المقربة في دمشق فقالت لي معهم حق، العودة انتحار.

كنت أقارن الروائح ونكهات الطعام، حتى ملحهم بدا لي عدواً غريباً يسحب قوتي مني، وكأن ملحهم لا ملح فيه.

عدنا من جولاتنا السياحية، زيارات لبحيرة وقلاع وجبل وقصر أثري مهيب، عروض موسيقية ومسرحية في الشارع، وإنارة لكاتدرائية المدينة الأشهر، لكني وفور عودتي طالبتهم بجواز سفري، أيقنوا حينها أنني سأعود! لم يناقشوني، لكنهم لجأوا لسلاح المقاطعة فقاطعتهم أيضاً، في صباح اليوم التالي نزلت لوحدي إلى المدينة وأسواقها ودكاكينها، كنت حرة مع رغباتي التي تناسب شامي التي أحن إليها وأفتقد أهلها، وتنتظرني بلهفة، منحني إحساسي المؤقت بالمكان شعوراً بالرضا، اشتريت حاجات بسيطة، لكني رأيتها ضرورية، وكان حساب فرق العملة مرعباً وحاضراً بشدة، عدت إلى المنزل وبضع أكياس في يدي، علب أدوية بما فيها السيتامول وفيتامين C، جهاز لتقويم أصابع قدم صديقتي، ملابس مهرج لطفلة يتيمة نسيت الضحك، ألوان وحقائب لأولاد أخي، معاجين أسنان وعبوات واقٍ شمسي تجارية لكنها تحمل بصمة فرنسية، وقبعات قش للأصدقاء والأقارب، وخاصة الشابات، فستان لخالتي الثمانينية! وشرائط ليف معدني لتبييض طناجر الألمنيوم، أسقط في أيديهم وصار الصمت حاجزاً بيننا.

في المساء اكتشف ابني أنني جمعت كل أغطية القطارميز الزجاجية ووضعتها في كيس قرب حقيبتي، ضحك ساخراً، أغطية يا أمي! بكيت فوراً، أجبته يأن الغطاء الواحد بـ500 ليرة، وكل تخزين المونة يتم بواسطة القطارميز وأنتم ترمونها هنا، وصرخت: نحنا ما عنا كهربا للمونة.

انتبه ابني جيداً لهشاشتي، تخلى فجأة عن موقفه المتشدد، قال لي بود: غداً سأرافقك إلى السوق لتشتري كل ما تريدينه، لكنه لم يرد لي جواز سفري، صمتت وحاولت النوم، في الليل دخل غرفتي أكثر من مرة ليطمئن عليّ، خدعته وتظاهرت بالنوم العميق، لكنه كان يعرف تماماً أنني لا أجد طريقاً للنوم منذ وصولي.

هي البلاد المسكونة بالحرب والجوع والخوف لا تموت، لكنها تميت أحياءها على رجاء قيامة هامدة وتائهة.

 

في اليوم التالي وأثناء مرورنا أمام واجهة محل لبيع الزيوت العطرية أعلمت ابني برغبتي بشراء زيت الأرجان، دونما تفكير قال لي لكن ثمنه غالٍ! كان جوابه صفعة مدوية على رأسي، صرخت به، ثمنه لا يساوي أجر ساعة بالنادي الرياضي الذي ترتاده لتخسيس وزنك! هل تظن لأنني قادمة من بلد الحرب والجوع أن الموت وحده ما يليق بنا؟ وأعلنت بجنون: (أنا بدي أشتري عبوتين زيت أرجان قياس كبير!) كان ردي هيستيرياً كمن يدافع عن حقه بالحياة، كمن يقول للآخر اتركني أعيش في بلد الموت ولكن مع زيت الأرجان! إنها مفارقة تكوي الروح، تناقض لا يفهمه إلا أهل البلاد الغارقة في الجوع والحرمان والحرب وموت الروح قبل الجسد.

فاوضتني ابنتي على تأجيل موعد العودة، رفضتُ بشدة، قالت لي بمناورة ودودة: خذي وقتك للراحة، ستعودين حتماً، لكني رفضت بذريعة أن عملاً كثيراً ينتظرني.

في المساء أعاد إلي ابني جواز السفر، ندمت حينها على قسوة ردود أفعالي حيال تمسكهم ببقائي، وددت لو تعيد ابنتي محاولتها لنيل موافقتي على تمديد الإجازة، كنت مرتاحة لتجاوبهم مع رغبتي في العودة، وخفت فجأة من ألا أتمكن من الحصول على فيزا جديدة في الأعوام المقبلة، لكنهم قرروا أن يقفلوا أبواب النقاش معي في كل شيء حرصاً على سلامتي النفسية وهرباً من قسوتي في ذات الوقت.

أعدت الاتصال بالأصدقاء لترتيب مواعيد لزيارتهم بعد إعلامهم بتاريخ عودتي المؤكدة، انتابتهم حيرة ألزمتهم الصمت، أنعشتني الزيارات اللطيفة الودودة والسريعة، أهملت أسئلتهم عن جولاتي السياحية هنا، كنت أعاتبهم/ن حين يؤجلون سؤالي عن كل تفاصيل الشام وأوضاع أهلها، نصّبت نفسي ناطقاً حصرياً ورسمياً عنها وعن أهلها، وأثقلت أسماعهم وأنا أكرر وأعيد حجم المآسي والأسقام التي نعاني منها، حتى صرخت بي صديقتي قائلة: نحن نعرف كل ما تقولينه، أجبت بحزم وبدموع ترافق كلامي: لا أبداً! تعرفون الأخبار العامة في نشرات الأخبار، لكن لا تشعرون بها، لا تشمون رائحة الفقد ولا لسعة الحرمان. كنت أدينهم من حيث لا أدري، وهم ليسوا الجناة أصلاً، كنت كمن يبحث عن أشخاص ليحملهم قهره المديد بحثاً عن راحة مخادعة وشجاعة مفقودة.

وجاء موعد العودة، بكيت كثيراً، اعتذرت أكثر، والأهم أنني وعدتهم بالعودة القريبة ولمدة أطول.

في الشام تغيرت أحوالي بعد العودة، يداهمني البكاء فور ذكر أبنائي، لطالما نصحت كل الباكين والباكيات بزيارة الطبيب النفسي مدعية الصلابة والقوة وكأنني لا أحتاج إلى العلاج ولا التضامن، بعد عودتي بت أبكي مع الجميع، قائلة: (أصلاً نحن عجّزنا الطب النفسي).

 بت عالقة على الحدود، لاهنا لي ولا هناك! كطير يخاف الهجرة كل خريف نحو أرض غدت بلا ربيع.

هي البلاد المسكونة بالحرب والجوع والخوف لا تموت، لكنها تميت أحياءها على رجاء قيامة هامدة وتائهة.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.