خوفاً من الطغاة

خوفاً من الطغاة

04 اغسطس 2022
+ الخط -

شاهدت رجلاً في سنّ متقدمة يحتضن كلبه الصغير متكئاً على حائط لمبنى كبير، يخرج منه الناس ويدخلون فرادى وجماعات. مول ضخم يضمّ عدداً من المحال التجارية الشهيرة في تلك المدينة. نظرت إلى الرجل باستحياء، وأثناء دخولي المول هَرول الرجل إليَّ وكلبه خلفه. توقفت عن الركض. قلت في نفسي ماذا يريد هذا الرجل مني. سألني بلغة ألمانية ركيكة عن هويتي، ومن أي بلد؟ أجبته بكل احترام عن سؤاله. واسترسل مرة أخرى في أسئلته. يوجهها إليَّ وبكل ثقة بالنفس. هل أنت سوري؟ هكذا يبدو عليك؟ أنتم شعب طيّب كريم ومضياف. هل بالإمكان مساعدتي بخمس يورو فقط لأتمكن من شراء سندويشة أسدّ بها جوعي؟

وقفت أتأمل شخصيته، وأجبته عن سؤاله بعد أن أخرجت من جيبي مبلغاً من المال، وأعطيته له.

وقف وبجانبه كلبه، وصار يجهش بالبكاء. خففت عنه، وربتت على كتفه، وقلت له: كان الله بعونكم أيها الأكرانيون. أصابكم ما أصاب السوريين من حرمان وقتل وتدمير وتشرد.

هذا ما يريده بوتين تدمير بلد كبير مثل أوكرانيا. بلد منتج لأهم سلعة استهلاكية في العالم من القمح، واللحوم والزيوت والحديد والفحم الحجري، ومشتقات الألبان، وغير ذلك.

لماذا كل هذا الحقد الأعمى الذي حدا بهذا الرئيس الروسي إلى أن يحرق بلداً كبيراً تفوق مساحته ثلاثة أضعاف مساحة سورية، وعمره سنوات؟ وكيف يسمح بنفسه أن ينتقم من هذا الشعب البسيط المتواضع؟ وماذا نفهم من كل ما توصل إليه من قهر حقيقي لهذا البلد، ولهذا الشعب من نتائج لا ترضي أحداَ. كل ما شاهد ما يحدث في أوكرانيا من خلال الشاشة الفضية، ومحطات التلفزة المختلفة وقف موقفاً سلبياً تجاهه، وتمنى الخلاص منه بأي صورة كانت. إن هذا الرئيس مهووس بنفسه. مريض بتصرفه الأرعن، بضرب هذا البلد بالدبابات والصواريخ والطائرات، والأسلحة الممنوعة. قضى على كل شيء لإرضاء نزواته!

ظل يستمع إلى ما قلته، وانصرف ومعه كلبه إلى جواره مذلولاً يبحث عن مطعم قريب لشراء ما يسدّ به رمقه. وقفت أراقبه، وأدعو له بخلاصنا من هكذا حكام مجرمين لا يعرفون إلّا قهر شعوبهم وإذلالها. فما هو هذا الذنب الذي اقترفه هذا الشعب حتى قتلوا مئات الآلاف من أبنائه وبكل دم بارد مادام أنهم سرقوا كل ما سبق أن جناه، وما تدره تلك البلاد من خيرات، ونهبوا منتوجاتها، وفوق ذلك الشعب المسكين يصفق بكلتا يديه لانتصار جلاديه خوفاً، وبالرغم من هذا وذاك بقي ساكتاً لائذاً بالصمت خوفاً من الطغاة وأملا بالخلاص منهم. لعنة كبيرة أصابت الناس وابتلوا بها شرّ بلية.

***

وأنا في طريقي للحاق بمدرسة تعلّم اللغة الألمانية في فيينا، مع ساعات الصبح الأولى، لفت نظري في "شتراسنبان"، وهو قطار ركوب يحمل الناس داخل المدينة، لوحة مكتوبة في شاشة القطار: "لا يمكن أن تكون بطلاً لكن يمكن أن تكون إنساناً". وهذه الصورة تعرض واقع الحياة المريرة والتعامل بقسوة من قبل حكامها الطغاة في أغلب الدول الأفريقية الفقيرة التي تعاني من فقر مدقع، وجوع قاتل. وانتقلت بنا الشاشة الفضية عارضة وبكل بؤس الواقع الحالي الذي يعيشه العديد من أبناء تلك الدول، الذي يدفع أغلب أبناءها إلى المغامرة بأنفسهم طلباً للجوء إلى دول الاتحاد الأوربي، على الرغم من الصعوبات التي تواجههم وتعترض طريقهم، وقضاء عديد منهم في عرض البحر غرقاً لجهة الوصول إلى تلك الدول التي سبق أن عاش فيها كثيرون واستوطنوا فيها. فالإنسان ـ بصراحة ـ لا يمكنه أن يكون بطلاً مقداماً لأن الحياة بصعوباتها وتحدياتها وآلامها وما تحمل، قد تأتي على أشدّهم قوة وتفتك بهم في لحظة، وترمي بهم في حفر ووديان تنهي حياتهم. ويظل الإنسان هو محور الحياة ومبدأها وأصولها، ولهذا سعى الكثيرون نحو الفوز بحياة مستقرة وآمنة. حياة آدمية لإكمال مشواره في مأمن وسعة من العيش.

بوركت السواعد الفتية التي تشيد بالإنسان، وتفعيل دوره وتدفع به إلى العطاء والتحدي، وتنمية فكره وعقله ليكون ذلك مثار اهتمام كثيرين ممن تساعدهم ظروفهم على الوصول إلى مسعاهم وما يرغبون به، ولهذا نبارك لكل من يجتهد ويسعى ويبحث عن الحياة الآمنة المستقرة. الحياة التي يمكنها أن توفر له إنسانيته وأدميته، والعيش برغد بعيداً عن عيون الطغاة وجلاديهم الذين لم يتركوا حتى الصغار من بطشهم، أو يتركوا مجالاً للاستقرار لأمثال هؤلاء الناس، بل دفعهم إلى التنكيل بهم وإجبارهم على ترك بلادهم، لا لشيء سوى من أجل ترهيبهم واحتقارهم والخلاص منهم، للبقاء في السلطة والحفاظ على الكرسي!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.