طبق المعكرونة... حلّ اضطراري لتوفير الأمن الغذائي في تونس

طبق المعكرونة... حلّ اضطراري لتوفير الأمن الغذائي في تونس

24 مايو 2022
أضاف التونسيون إلى المعكرونة الإيطالية نكهتهم الخاصة (ماركو دي لورو/ Getty)
+ الخط -

لا يمرّ أسبوع من دون أن تعد عائلة تونسية طبق المعكرونة، الذي يزداد حضوره على الموائد مع تصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل الأطباق الأخرى صعبة المنال بالنسبة إلى بعض الفئات. 
"تستطيع معجنات المعكرونة وحدها إسكات جوع عائلات كثيرة ذات دخل محدود". هذا ما تقوله عاملة تنظيف في مبنى سكني بالعاصمة تونس تدعى محبوبة وتبلغ 34 من العمر، التي تصف طبق المعكرونة بأنه الأقرب إلى قلوب وجيوب التونسيين، وتؤكد أنه يحضر على مائدة أسرتها نحو 4 أيام أسبوعياً.
تتابع في حديثها لـ"العربي الجديد": "أطبخ أشكالاً متعددة من المعكرونة بحسب الإمكانات التي تتوفر لدي. أطبخها كذّابة، أي من دون لحوم، وجارية في شكل حساء، وأحياناً بيضاء مع قليل من الزيت فقط عندما تشتد الأزمة. وفي مناسبات أخرى، أظهر سخاءً أكبر، وأطبخها بصلصة ولحم أو دجاج". 
وترى أن "المعكرونة تقاوم الغلاء، وحلّت بالتالي بدلاً من طبق الشكشوكة على موائد الفقراء، بعدما ارتفعت أسعار مكونات هذا الطبق من بيض وفلفل وطماطم وزيت وتوابل".

قضايا وناس
التحديثات الحية

وتؤيد دراسة، أجرتها شركة سيغما كونساي المتخصصة في الإحصاءات، أن استهلاك التونسيين المعكرونة يزداد وصولاً إلى ثلاث مرات أسبوعياً. ويعلّق مدير "سيغما كونساي" حسن الزرقوني، في حديثه لإذاعة موزاييك، بأن "زيادة استهلاك المعكرونة تدل على تصاعد الأزمة الاجتماعية وتزايد الفقر في تونس، ما يحتم تحوّل العادات الغذائية إلى الأطباق الأقل كلفة". يضيف: "تشكل الأطباق التي تتضمن مواد مدعومة ملاذاً للفقراء في الأزمات الاجتماعية، لكن هذا الواقع مؤشر مقلق أيضاً". 
وصنّفت دراسة إيطالية أجريت في مارس/ آذار 2021 تونس في المرتبة الثانية على صعيد استهلاك الخبز والمعجنات، بنسبة 17 كيلوغراماً للفرد الواحد سنوياً، علماً أنّ الإيطاليين يحتلون المركز الأول بكمية 23.5 كيلوغراماً سنوياً. وكشفت الدراسة الإيطالية أن ارتفاع استهلاك المعجنات، وبينها الخبز والمعكرونة، من بين تداعيات جائحة كورونا العالمية على تونس. 
وتظهر دراسة، أجراها معهد الاستهلاك الحكومي في تونس حول تغذية الأسر، أنّ النظام الغذائي التونسي يرتكز على المعجنات التي تؤمن أكثر السعرات الحرارية والمعادن المطلوبة لأجسامهم. وتشير إلى أن ارتفاع استهلاك المعكرونة وصل إلى 14 كيلوغراماً سنويا للفرد الواحد في مناطق جنوب غربي البلاد، و12.9 كيلوغراماً في مناطق وسط الغرب، أما معدل الاستهلاك الوطني فلم يتجاوز 11.9 كيلوغراماً للفرد سنوياً .
وتقول الباحثة في علم الاجتماع صابرين الجلاصي، لـ"العربي الجديد"، إن "الأمن الغذائي يتحوّل إلى أولوية مطلقة لكل الشعوب في زمن الأزمات. وهو كان يشمل قديماً تخزين الأسر التونسية المؤونة، قبل أن تتغيّر هذه العادات، ويصبح تخزين المعكرونة علامة بارزة للأمن الغذائي لديها". تضيف: "يسارع التونسيون عادة إلى تخزين المعكرونة لدى الشعور بأدنى خطر، وأطباقها الأكثر قرباً لوجدانهم وجيوبهم أيضاً بسبب إمكان طبخها بطرق متعددة، وبأقل كلفة. وهكذا يظهر جلياً أن السلوك الغذائي للتونسيين شديد التأثر بالوضعين الاقتصادي والاجتماعي، ويحوّل الفقر ونقص الأموال وجهة الأطباق نحو المعجنات مباشرة، باعتبار أن تونس ضمن مجموعة البلدان التي تعتمد على الحبوب في غذائها الأساسي" .

الصورة
تأثر السلوك الغذائي للتونسيين بالوضعين الاقتصادي والاجتماعي (شاذلي بن إبراهيم / Getty)
تأثر السلوك الغذائي للتونسيين بالوضعين الاقتصادي والاجتماعي (شاذلي بن إبراهيم / Getty)

أطباق خاصة
وترى الجلاصي أنّ "الأزمات تخلق أشكالاً جديدة من الطعام بسبب بحث المواطنين عن أطباق تتلاءم مع إمكاناتهم. وقد لجأ التونسيون في مراحل صعبة سابقة إلى الطبيعة، وابتكروا أطباقاً من أعشاب برية لتأمين كفايتهم من الغذاء، قبل أن تسيطر المعكرونة على غذاء الفقراء في العقدين الأخيرين".
ويطبخ التونسيون بمختلف فئاتهم الاجتماعية المعكرونة بأشكال مختلفة، ويتفوقون في إعطاء الطبق، الذي جلبه الإيطاليون، طابعاً خاصاً باستخدام التوابل المحلية وأسماك وثمار البحر المتوسط، ولحم الضأن والدواجن، أو حتى عبر طبخها مع أجبان وخضار.
ويعود تاريخ المعكرونة في تونس إلى القرن التاسع عشر، حين استوطن الإيطاليون في البلاد، وجلبوا معهم طبق المعكرونة الذي نافس لسنوات طبق الكسكسي ذي الأصول البربرية .

قضايا وناس
التحديثات الحية

وفي ثلاثينيات القرن الماضي، أنشأ إيطالي يدعى قوندولفو (غوندولفو) أول مصنع للمعكرونة في شارع فرحات حشاد بالعاصمة تونس. واستمرت علامة "قوندولفو" الإيطالية في سوق تونس حتى عام 1990، حين أغلق المصنع. وبين أولى مصانع المعكرونة الكبيرة في تونس، "ماناردو" التي كانت في الضواحي الجنوبية للعاصمة تونس، و"كاسترو سترازولا" التي امتلكت منشآت على الطريق المؤدية إلى محافظة زغوان.
وبعد اختفاء مصانع المعكرونة الإيطالية التي مهدت الطريق أمام تلك التونسية لطرق أبواب هذه المنتجات، تحوّلت صناعة المعجنات الغذائية إلى إحدى أبرز الصناعات الغذائية في البلاد، وباتت تنافس بمهارة عالية في رفد الأسواق بأفضل الأصناف، بالتزامن مع تزايد تعلّق التونسيين بأطباقها.

المساهمون