أفراح السوريين بالجنسية الأوربية

أفراح السوريين بالجنسية الأوربية

17 مايو 2022
+ الخط -

ذكرتُ لكم، في تدوينة سابقة، أن المدام هلالة، وزوجها كريم، مَرَّا بنا هنا في مدينة إلمسهورن الألمانية، وحاولا إقناعنا أنا وأم مرداس بأن نزورهما في هولندا.. وحينما أيقنَا أننا لا نتمتع بهمة كافية للسفر إلى هولندا، تفتق ذهنُ هلالة عن حل وسط، وهو أن نذهب كلنا إلى إسطنبول، ونمضي العطلة (Urlaub) في منتزهاتها الرائعة، وأوضحتْ لي أنها نفسها انفتحت للسفر بعد حصولها وأسرتُها على الجنسية الهولندية.

قلت: أولاً؛ مباركة الجنسية. ثانياً؛ لاحظتُ لكِ، يا أم الهلّ، أن السوريين الذين يحصلون على جنسيات أوربية، يفرحون بها فرحاً عظيماً، وأتصور لو أنهم كانوا يعيشون في مدينة أوربية واحدة، لتجمعوا، فور حصولهم عليها، في أقرب ساحة عامة، ووضعوا في المسجلة كاسيتاً يتضمن أغنية كاظم الساهر (لقعد لك ع الدرب قعود)، ودبكوا ونخوا، وأطلقوا النار في الهواء، كما لو أنهم مُجْبَرون على الاحتفال بذكرى الحركة التصحيحية عندما كانوا في سورية، مع أن ذكرى هذه الحركة، برأيي، مشؤومة، مثل ذكرى وعد بلفور، وذكرى سقوط بغداد، وذكرى تقسيم فلسطين.. هل تعلمين ما هو سبب هذه المقارنة؟

تدخل كريم زوج هلالة متسائلاً بلغة العارف: وهل هو سبب واحد؟

قلت: معك حق أخي كريم. الأسباب لا تعد ولا تحصى، ولكنني سأركزُ الآن على سبب أراه جوهرياً؛ وهو أن هلالة، جاءت من أمستردام إلى هنا بسيارتها، خلال سبع ساعات، ثم سافرت إلى هامبورغ، وعادت إلى هنا، وأنت أيضاً جئت من أمستردام، ثم سافرتما معاً إلى "كيل"، وعدتما، وخلال كل هذه التنقلات لم يوقفكما أحدٌ ليسألكما سؤالاً مهماً، أو حتى تافهاً، من قبيل: متى يطلع القمر؟

ضحك كريم وقال: ذكرتني بفيلمون وهبي. في أحد سكتشاته الغنائية تسأله فتاة حلوة: أيمتا بيطلع القمر يا سبع؟

فيردّ عليها بطريقته المرحة الظريفة: بيطلع القمر لما بغيب أنا، لأن قمرين مو ممكن يجتمعوا في دنيا واحدة!

بالمناسبة، الفوضى ليست متأصلة في الشعب السوري -كما يحلو لبعض الناس أن يقولوا- بالعكس، المواطن السوري آدمي، وحباب، وصبور، ولكن السلطة الديكتاتورية تتقصد ذلك

قلت: إذا التقينا مرة أخرى، ذكرني حتى أحكي لك طرائف كثيرة عن هذا المبدع الكبير فيلمون وهبي.. المهم، كنا نتكلم عن سهولة تنقل الإنسان في البلاد التي تحترم الإنسان وحقوق الإنسان دون أية عوائق، أو حدود، أو حواجز.. بينما أهلُنا السوريون الطيبون يحتفلون، ويدبكون على أيقاع الطبل، وينخُّون، عندما يتناقص عدد الحواجز الأمنية بين مدينتين متقاربتين جغرافياً.. يكون بين مدينتين ثلاثون حاجزاً، مثلاً، وبضربة حظ غير متوقعة ينزل العدد إلى 18 حاجزاً فقط. والسوريون، لعلمك، لا مشكلة لهم مع الوقت الذي يهدرونه بالوقوف عند الحواجز، فحياتهم كلها راحت هدراً في ظل هذا النظام القذر، ولكن المرور بكل حاجز يعني للواحد منهم دفع ألف ليرة سورية رشوة لعناصر الحاجز، وهؤلاء عندما يعلنون عن مبلغ الرشوة لا يقولون (ألف ليرة على كل مواطن)، بل يقولون (ألف ليرة عَ الراس)، وكأننا غنم أو ماعز حاشاكم.. وإذا ارتفعت الأسعار، أتخيل عنصر الحاجز يذرف دمعتين ساخنتين، ويقول للراكب وهو يتشهشه، ويمسح دموعه بكوعه: شوفة عينك يا حجي، الأسعار ارتفعت، والألف ليرة ما عادت توفّي معنا. إهي إهي إهي!

قالت هلالة: يبدو أن الحديث عن حصولنا على الجنسية الهولندية قد تحول بينكما إلى موضوع تراجيدي.

قلت: حياتنا نحن السوريين هي التراجيكوميديا بعينها يا هلالة.. ولهذا ترين  نفوس السوريين اللاجئين في أوروبا تنفتح، بمجرد استلامهم الجوازَ الأوروبي، على السفر، ولكن ليس على طريقة أديبنا الساخر الكبير محمد الماغوط..

- ما هي طريقته؟

- كان الماغوط يغضب من وطنه، (كما جاء في كتابه "سأخون وطني")، فيُقرر المغادرة. يُخرج جوازَ سفره، وحقيبته الصغيرة، وحبوب الدوخة، ويسافر في أول طيارة، ويركب في مقدمتها لكي يكون أول الخارجين بجسمه من الوطن، وحينما يحن للوطن، يجمع أشياءه، ويجهّز جواز سفره، وحبوب الدوخة، ويركب في أول طائرة عائدة إلى الوطن، ويتقصد الركوب في الأمام، ليكون أول الداخلين بجسده إلى الوطن!

- يا إلهي. ما أروع الماغوط.

- نعم. وأظنه لو بقي حياً لآثر الخروج من تلك البلاد البائسة (One Way) أي دون عودة. وبالمناسبة. هناك صورة كوميدية بارعة قدمها الفنان ياسر العظمة في إحدى لوحات مسلسل "مرايا"، تتلخص في أن مواطناً سورياً اسمه (فاروق البحرة)، قدم جواز سفره إلى "الأمن العام" لأجل الحصول على تأشيرة سفر، وعندما ذهب ليستلم الجواز مع التأشيرة وجد الناس متجمهرين أمام المبنى، على طابقين، الرشيقُ فيهم يصعد فوق ثقيل الحركة، وبعد صياح وصراخ، وهياط ومياط (كما يقول المعري)، خرج الموظفُ الذي يوزع الجوازات، وصاح: خازوق البحرة! وقذف جوازه في الهواء وفرفح مثل طير الحمام وسقط على الأرض، فركض نحوه، وحمله ومشى وهو يحدث نفسه: تبهدلنا بهدلة الكلاب، وفوقها صار اسمي خازوق البحرة؟!

قالت هلالة: يبدو أنه لا يوجد حد للفوضى في بلادنا.

قلت: بالمناسبة، الفوضى ليست متأصلة في الشعب السوري -كما يحلو لبعض الناس أن يقولوا- بالعكس، المواطن السوري آدمي، وحباب، وصبور، ولكن السلطة الديكتاتورية تتقصد ذلك، فلو كانت دائرة الهجرة والجوازات، مثلاً، تحترم المواطنين، لأعطت لكل منهم رقماً يحتفظ به، وحددت له وقتاً يأتي فيه، ويستلم جوازه بكل احترام، أو أرسلته إليه بالبريد. نعم بالبريد، لم لا؟.. ولكن هذه السلطة مولعة بصناعة الجماهير وتجميعهم في مكان ضيق بقصد إذلالهم.. ومَن لا يصدق فليذهب، في أية مدينة سورية، إلى محطة بترول، أو فرن، أو جمعية توزع الرز والسكر بالقسائم، ويرى التجمعات والإهانات..

قال كريم لهلالة: حبيبتي لا يوجد أمامنا سوى حل واحد، هو أن نأتي نحن إلى هنا مرة كل أسبوع أو كل 15 يوماً ونلتقي بصديقنا أبو المراديس وعائلته. وفي أسوأ الأحوال يمكن التحدث معهم بالواتس أب أو الماسنجر.

قالت: موافقة. على كل حال نحن يجب أن نسافر، لأننا تأخرنا على الأولاد.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...