كنتُ بين المنشدين ريشةً تدوّم في الهواء

كنتُ بين المنشدين ريشةً تدوّم في الهواء

19 يناير 2022
فاتح المدرس/ سورية (جزء من عمل)
+ الخط -

في الحلقة في مكناس

في الحلقة في مكناس، كنتُ عازف التعريجة، وكان طائري يحوّم أعلى المدينة.

أمدّ اللحن بين شمسٍ وظلّ، أَعلم أين بيت الشهقات، 
أين تنام الزرقة وأين ترقص السموات.

لا عليكِ يا نفسُ، الحيطان عالية والشوق شديد!

في الحلقة، في مكناس، كنتُ بين المنشدين، ريشة تدوّم في الهواء، لا تعرف لها مستقرّاً.
قلتُ وأنا أنظر إلى القوم من أعلى:
من أيّ حمادةٍ يأتي هذا الوادي الحزين؟
من أيّ أرضٍ تفيض هذه الأنسام بالعطر؟
من أيّ وديعة تخرج هذه الأرواح السكرانة؟

ثمّ كأنّي مستلقٍ تحت شجرة خرّوب، قدامي تجلس أطيار وأنعام أحدّثها وتحدّثني
ثمّ كأنّي أركض في وادٍ حجارته من ذهبٍ وفضّة، أشجاره تنطق بألف لسان
ثمّ كأنّي تخطّفني نعاسٌ إلى حديقة فيحاء 
ثمّ كأنّي قبسة نارٍ في خلاء تنتظر النبي الحيران.


■ ■ ■


أيّ موت

الموت أوراقٌ في أغصان شجرة
أو أعناقُ فقّاع تتدلّى من سفح جبل
أو زفراتٌ تطفو على سطح ماءٍ 
أو طائرُ ليلٍ قصّتْ جناحيه شهوةُ صيّاد
أو دقّاتُ طبول تتقلّب تحت الكلمات
أو طفلٌ ينهض مبكّراً لضوضاء النهار
أو طفلةٌ تقضم حلوى العجائز في العشيّات الطريّة
أو خيّالٌ غضوب يرحل إلى فلوات بعيدة.

الموت أنفاسٌ تتنقّل على الأنامل كما تتنقّل الحدأة على أشجار الطلح.

أيّ موتٍ تختار يا لاعب النرد؟
أيّ موتٍ تضعه في خميرة خبزك يا غريق النهر؟
أيّ موتٍ تضعه في رجفة الناي يا صاحب القصَب؟
أيّ موتٍ ستنهمر به السموات على أرض الخراب العظيم؟
أيّ موتٍ يشرب النبيذ في حانة القمر المشقوق؟


■ ■ ■


خلخال 

تشتبك الأيدي لتصنع الدائرة. لكنّ الأشجان تطرحُها في قفارٍ شاسعة
الأحزان تبني بيوتها في كهوف الجبال، أمّا الأصوات، حسبُها أن ترجع إلى خلخال الصبية الطاهرة.

هلّ تنضحُ الأجساد بالعسَل، إذا استقام المعنى وفاض بمائه الجدول؟

هذه الليلة، سأكتفي بوَرَع الشيوخ، 
أصبّ في كأسي، الشايَ المنعنع، وأرقب كيف تتشظّى البلاد بأظفارها.


■ ■ ■


صبّار في شارع تُرابي

هل رأيتَ كيف صارت حبّة الرمل طبلاً يدقّ في البريّة؟ 
هل رأيتَ كيف صارت الريح نفخة شجن في صدر عازف ناي؟ 
هل رأيتَ كيف تغادر الأوراق أشجارها في ضحى يومٍ معلوم؟ 
هل ريتَ كيف تأخذك الكلمات إلى بيوت موتى عابرين، 
وكيف أخذْتَ الكلام الشاحب إلى فلوات موحشة؟
لم تتركك الأشياءُ وحيداً في الخلاء،
لم تدفع بكَ الأحزانُ إلى سرير اليائسين. 
كنتَ دائماً تُنصتُ إلى حديث الصبّار،
إلى الكائنات في الصباح.
لم تخبره عن مسألتك، ولم يلتفّ إليك،
واقفاً هناك في ظلّ شجرة التين. 
لم تخبره عن رائحة جدّك التي تحملها 
في حِرزٍ قديم، ورثته من أبيك.
الصبّار الذي شاهد الفتيان يرفعون
الأسلحة عالياً في الشارع الترابي!


■ ■ ■


في انتظار البرابرة

ماذا تنتظرون وشمس هذا النهار تلسع رؤوسكم؟
قيل لنا إنّ رجلاً سيأتي فيأخذنا إلى الضفّة الأخرى
ليس بالميت فلا يعود وليس بالحيّ فنراه
قيل لنا إن سمعتم صهيل فرسٍ في ليلٍ 
اخرجوا لعلّه يراكم!

حسبيَ 
حسبي أن ألوّحَ بيدي لطائرٍ هائمٍ
أنْ أُبصر دخاناً ورجالا ونساء يضحكون.
...
حسبيَ أنْ أهبَ الإيقاعَ قدميّ
أنْ أرى على يميني القمر فرحانَ.

...

تماسكْ يا جدارُ
غادرْ خوفكَ قليلاً
كي لا تسقط ساعة الزلزلة
اصعدْ 
كي لا تدقّ الوِحدةُ وَتَدَها في صدرك
تماسك يا جدارُ!


* شاعر من ليبيا

المساهمون