الترجمة في المربّع نفسه: حين أطلّ مونتاني مرّتين بعد غياب قرون

الترجمة في المربّع نفسه: حين أطلّ مونتاني مرّتين بعد غياب قرون

09 ديسمبر 2021
تمثال لـ مونتاني في مدينة بوردو الفرنسية، 2020 (Getty)
+ الخط -

مرّ أكثر من خمسة قرون على إصدار الكاتب الفرنسي ميشيل دو مونتاني (1533 - 1592) لمجموعة نصوصه التي ظلّ يكتبها ويطوّرها طوال حياته، وكان يتأمّل فيها كلّ ما يشغله من قضايا (العدالة، المعتقدات، الإنسان...) ويَسِمها بغير ما درجت عليه أسماء تصنيفات الكتب وقتها، حيث اعتمد اسم "المحاولات" (Essais). وبات هذا العمل فاتحةً لجنس من أجناس الكتابة يُسمّى بالمحاولة، يقف في منطقة وسطى بين الفكر والأدب، ذلك أنه يذهب بعيداً في التأمّل العقلاني، لكنّه يترك مساحة واسعة للتقييمات الذاتية.

بمرور القرون، أخذ كتاب "المحاولات" موقعاً بارزاً في الثقافة الفرنسية، كونه يُجسّد انعكاساً لروح عصر النهضة الذي كانت تدور فصوله في مدن إيطاليا أساساً، كما اعتُبرت لغته مرحلة وسطى بين الفرنسية القديمة والفرنسية الحديثة. وحين نعرف حضور الثقافة الفرنسية الطاغي في منطقتنا العربية، سنستغرب كيف لم ينهض المترجمون لنقله إلى اللسان العربي. لكننا سنستغرب أكثر حين نعلم أنه، بعد غياب أكثر من خمسة قرون، ظهرت منذ أسابيع قليلة، وبشكل شبه متزامن، ترجمتان للكتاب.

مصادفة الصدور في نفس الفترة يرافقها تشابُهٌ في خيار العنوان، فقد أتت نسخة "دار التنوير"، التي أنجزها المترجم التونسي جلال الدين سعيّد بعنوان "مقالات"؛ أمّا نسخة "منشورات معنى"، التي عرّبها المترجم المغربي فريد الزاهي، فكانت بعنوان "المقالات". وهكذا، كأنّ العنوانين قد تطابقا لكنْ ضمن تسمية تتحاشى الإشكالية الأجناسية التي يقوم عليها كتاب مونتاني، وهي أن نصوصه كانت على مسافة مع الطريقة التي كانت تُكتب بها الأعمال الفكرية. فالكاتب الفرنسي قد ذهب - بوعيٍ - إلى القَطْع مع المقالة والرسالة والمصنّف ومجمل طيف "الأجناس" التي كان يُكتب بها الفكر في زمنه. لكنْ يظلّ لهذا الخيار في الترجمة وجاهته، فـ"المحاولة"، بمعناها الحديث، قد باتت، بعد تجارب خمسة قرون من الكتابة، ودخولها في مختبر التنظير (ثيودور أدورنو، بيير غلود، إيرين لانغليه...) تدلّ على نص موسّع، يصدر في كتاب عادةً، ضمن ثيمة موحّدة يتناولها المؤلّف من عدّة زوايا، مع الحفاظ على شرطَيْ التأمّل الفكري والصوت الذاتي. وبهذا المعنى تبدو كتابات مونتاني غير خاضعة إلى هذا التحديد اللاحق للمحاولة كجنس له ضوابطه وثوابته، ما يجعله أقرب إلى تصنيف المقالات.

ليس جديداً على الثقافة العربية صدور ترجمتين وأكثر لنفس الكتاب

ما يُوْقِعُ في إشكالية ترجمة العنوان، عدمُ وجود إطار تسميات دقيق ومستقرّ للتصنيفات الأجناسية في الثقافة العربية، وأبعد من ذلك لم يجد الجنس الذي يَكتب فيه مونتاني أعمالَه ترسيخاً تأليفياً أو تنظيرياً في الثقافة العربية، كما عرفت ذلك الرواية التي تمثّل هي الأخرى بضاعة أجناسية مستوردة من الغرب. إذ قلّما صنّف مؤلّفو الأعمال الفكرية أعمالهم تحت مسمّى المحاولة، ولعلّ في ذلك ما يفسّر تأخّر هذا العمل، بالذات، من بين بقية أمّهات الكتب الفرنسية.

ليس جديداً على الثقافة العربية صدور ترجمتين (وأكثر) لنفس الكتاب، بل ليس جديداً أن تصدر ترجمتان (وأكثر) لنفس الكتاب في العام ذاته. نذكر أنه في 2018 ظهرت ثلاث ترجمات لرواية "الحرس الأبيض" للكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف بعد قرابة قرنٍ على صدورها: الأولى أنجزها عبد الله حبّه وصدرت عن "المركز القومي للترجمة" في مصر، والثانية وضعها شريف ناصر ونشرتها "الهيئة العامّة السورية للكتاب"، وترجمة ثالثة لنبيل يوسف عن "دار الخان" في الكويت.

إلامَ تشير هذه الظاهرة، وأيضاً مثيلتها التي تتعلّق بما يمكن تسميته "ترجمة المترجَم"؟ ولنذكر هنا حادثة قريبة تتعلّق بصدور رابع ترجمة لكتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد هذا العام (عن "دار الآداب" بتوقيع محمد عصفور، وتأتي بعد ترجمات كلّ من كمال أبو ديب ومحمد عناني ونذير جزماتي)، في حين أن بعض مؤلّفات المفكّر الفلسطيني لم تصل إلى العربية بعد... وانظر كذلك إلى أعمال تكرّرت ترجمتها لـ فريديريش نيتشه ورولان بارت وأومبيرتو إيكو وغيرهم. هذا إذا اقتصرنا على الترجمات الفكرية. أمّا بين الترجمات الأدبية، فالظاهرة أكثر بروزاً، كأعمال شكسبير، ومؤخّراً موضة ترجمات أعمال ستيفان تسفايغ.

وفي حين أن لإعادة الترجمة وجاهتَها، خصوصاً مع مرور زمن طويل بين صدور ترجمة وأخرى، فإنّ صدور أكثر من ترجمة للعمل نفسه في فترة وجيزة يدعو إلى تفكير أعمق في ما يدور في بيئتنا الثقافية العربية. فنحن حيال تكثيف لما نعيشه من فوضى وتضارب وضبابية، بحيث لا نبدو مَهْديّين ببوصلة ولا نُدرك الأولويّات والثانويات؛ تُبذل الجهود لـ"سدّ الفجوة المعرفية" مع العالم، ثم نكتشف أن أكثر من جُهدٍ قد خُصّص لنفس مربّع الفسيفساء، فيما تظلّ بقية اللوحة العملاقة مفلتةً من المسك.

ها نحن نقف في موقع تتيح زاويته أن نرى شيئاً من واقع الترجمة في ثقافتنا، فهل نريد حقّاً أن نعرف كيف يدُار جهاز الترجمة الذي يُفترَض أن يكون الجسر الذي يصلنا بما يُنجَز من إبداع في بقية ثقافات العالم؟ ليس جديداً القول بأنه جهاز مضطرّب. سيكون هناك جديدٌ ليثبت ذلك لنا مرّات عدة؛ ومنه تَرجمتا مونتاني...

المساهمون