الارتجال قتل الرجال!

الارتجال قتل الرجال!

25 أكتوبر 2021
+ الخط -

من حسنات منصات التواصل كسر حاجز الخوف، الخوف من أمورة عدة، منها الخوف من الحديث أمام جمهور. لم تنسف هذا الخوف أو تستأصله، إنما خفّضت من ارتفاع سقفه.

يمكن لأي أحد أن يُمسِك هاتفه وأن يسجّل مقطعًا ما، يبث فيه فكرة أو يطرح تعليقًا أو يقدم نصيحة، والتنوع ظاهرة صحية، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن عورات الرجال.

لمَّا قال الأول "تكلّم حتى أراك"، وقال الآخر "المرء مخبوء تحت لسانه"، كانا يؤكدان حقيقة مفادها أن ثقافة المرء ومستواه العلمي والأدبي يجريان على لسانه، وعليه أن يضع ذلك في اعتباراته وألا يتنصل من هذه التبعة الجسيمة، (إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنما/ جُعِلَ اللسان على الفؤاد دليلا).

وعلى هذا الأساس، يحتاج المرء إلى تعلّم مهارات تنضاف إلى سجله إنجازاته، من جملتها فن الارتجال، والمراد به أن يتكلم الواحد منا في مسألة ما، في عمومياتها على الأقل، دون أن تضطرب أوصاله وترتعد فرائصه، وأن يقدم أجوبة دبلوماسية ما أمكنته الحيل.

ربما تأتي إجاباته فكِهةً ظريفة، أو جزلة رصينة، تترك انطباعًا لا يُنسى عن صاحبها، وقد نعجب من جودة بديهته وقوة ملاحظته وسرعة تفاعله مع الموضوع، حينها يرجو كل واحد منا أن يكون مثله إن لم يكن أفضل، وهو طلب مشروع للجميع. يحول بينك وبين هذه الملكة شيء واحد؛ إنه التردد! هل جربت أن تتعرض لموقف من هذه المواقف؟ إن سيطر عليك الارتباك ولم يُسعفك عقلك في تجميع الفكرة، وتصبّبت عرقًا في الشتاء، ولم تُحر جوابًا، فأرجوك أن تتمهل ولا تلعن فكرة الارتجال بعد هذا الموقف المحرج.

قالوا قديمًا "الارتجال قتل الرجال"، قتلهم إحراجًا أو إرباكًا أو قتل فيهم قدرًا من الثقة الزائدة، كل ذلك وارد جدًا، ولا يختلف عن اللقاح أو المصل، يُؤخَذ فيشعر المرء بدرجة من الإعياء الخفيف، ثم يستعيد عافيته سريعًا ويمتلك أزِمَّة الأمور..

قد يرمي المرء طوق نجاة للآخرين، يستدرجهم به من حيث لا يعلمون، يحبّب إليهم الارتجال بصورة غير مباشرة، وهذا دأب أولي النهى قديمًا وحديثًا

إليك ما جرى مع أبي علي القالي، ليس برجل عادي، إنما رجل صاحب قلم سيَّال، وله مجالس يخصصها للأدب والبلاغة واللغة، يسأله الناس وينهلون من علمه، لكنه لم يتعرض لموقف أكثر إحراجًا في حياته كلها، منذ نعومة أظفاره إلى أن كبرت سنه، لم يواجه بموقف أشد حرجًا مما وقع له في الأندلس.

طلب منه الخليفة المستنصر بالله الأموي أن يلقي كلمة، وذلك بمناسبة قدوم وفد الروم على الخليفة، فلما أبصر القالي هذا الجمع لم تحمله رجلاه، وخذله لسانه في موقف ما أحوجه فيه للكلام والإبانة، لا سيَّما أنه من أرباب الصنعة، بل وأساتذتها ومُنظّريها.

لعلك تستشعر أنك في موضع القالي، وأن هذا الموقف أبلغ دليل على هجران الحديث أمام جمهور، قرأت فيه من ورقة أو تدفقت ارتجالًا، لكنك تظلم نفسك وتحرمها خيرًا كثيرًا بقرارك المتسرّع، إذ مدار الأمر على التدريب والممارسة المتواصلة.

ماذا يضيرك لو أمسكت بهاتفك وحاولت الحديث في موضوع مرّ الساعة بخاطرك؟ ستخونك الكلمات، سيجف حلقك، سينقطع حبل فِكرك، كل ذلك وارد ولا بأس به؛ فإن أولَّ كلِّ مركبٍ صعب، لكنك تضع لنفسك حجر زاوية في دنيا الارتجال، وتبدأ اكتساب مهارة يُستطاب لها التعب وكثرة الإعداد.

حين انقطع إرسال القالي، اعتلى المنصة فارس آخر قد أعد نفسه لهذا الموقف، وهو المنذر بن سعيد البلوطي، وقدّم حديثًا لا يقل بهاءً عن خطبة مارتن لوثر كينج الخالدة. لم يكابر أبو علي وأدرك أنه خسر مجرد جولة؛ فعاد إلى حلقته ليبدأ صفحة جديدة، وتمرّن أكثر على الارتجال، والحياة دروس وجولات.

وقد يرمي المرء طوق نجاة للآخرين، يستدرجهم به من حيث لا يعلمون، يحبّب إليهم الارتجال بصورة غير مباشرة، وهذا دأب أولي النهى قديمًا وحديثًا، مهارة مارسها قديمًا أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزّال، وقد نقل إلينا أحدهم موقفًا له دلالات كثيرة وأبعاد مكثّفة بهذا الخصوص، يقول صاحبنا: "رأيت واصل بن عطاء يكتب حديثًا عن فتى كان يختلف إليه، فقلت له: لم تكتب عن مثل هذا الحدث حديثًا؟ قال: أما إني أوعى له مما كتبته منه، ولكني أردت أن أذيقه حلاوة الرياسة ليدعوه ذلك إلى الازدياد من العلم".

واليوم، يمارس هذا التشجيع عدد من المهتمين باللغة العربية وتراثها، يحببون الناس في الحديث بما تيسّر من الضاد، يقيلون عثرته ويمدونه بالعون إذا ما خذله لسانه، ويأخذون بيده حتى يتقوى ويشتد عوده في مضمار اللغة، يطلبون إليه أن يتخفّف من استعمال الكلمات الأجنبية والألفاظ العامية واللهجات، مجرد محاولة، وشيئًا فشيئًا تتسع حصيلة الفصحى على لسانه، ويقبل عليها بقلبه ولسانه محبًا مطمئنًا ومترنمًا بها في شتى المواقف.

في المقابل، يضع الدعاة إلى الضاد ضمن أولوياتهم مراعاة السياق، لا يتقعر أحدهم ويلوي لسانه بين جمعٍ ممن لا تربطهم به وشيجة ولا صلة، يتلمس الطريق لاستدراجهم بإجاعة اللفظ وإشباع المعنى، لا تغريه الألفاظ الطنانة ولا المحسنات البديعية المتكلفة، يعزز الفكرة ويُخرجها للمتلقي في أبهى صورة وأنسب لفظ.

والحال كذلك، وقد عرّجنا على خبرٍ لابن عطاء الغزّال، فلا ضير من الاستئناس بمعاصره ومادحه ردحًا من الوقت، إنه بشار بن برد، الأعمى الذي لم يدرس في السوربون ولا في هارفارد، ومع ذلك، يقدّم تنظيرًا يستعصي على عدد من الأكاديميين الوصول إليه والالتفاف حوله، يقول أبو معاذ وقد عوتب في سهولة لفظ مديحه لجارته رباب: "إن الشاعر بمنزلة البحر، يقذف بحوت وصدفة وحية، فإنما القدرة على الشعر أن تضع الجد في موضعه، والهزل في موضعه، وأما رباب هذه فجارتي، وقد حضضتها على أن تجمع لي البيض، وكان هذا القول عندها أوقع من قفا نبكي من ذكرى حبيبٍ ومنزل".

وعلى طريقة الأول، فإن "الإيناس قبل الإبساس"، والتدرج في عرض البضاعة أقمن بالقبول، إذ إن طعام الكبير سم الصغير، وما يأتي جملةً لا يُستفاد منه وسريعًا ما يُزهد فيه، وإن قتل الارتجال رجالًا، فإنه أحيا آخرين ورفع بين العالمين ذكرهم، ولنا في محمد بن عبد الملك الزيات ما يؤكد ذلك، ولحديثه ينسبط المداد ويتسع المجال قريبًا.