الاحتكار في الجزائر... صراع بين الحكومة ولوبيات الاتجار بمواد أساسية

أزمات متكررة في المواد الاستهلاكية بسبب المضاربات
11 أكتوبر 2021
+ الخط -

ما سر تزامن أزمات ارتفاع الأسعار وندرة المواد الأساسية في الجزائر، مع محاولات تطبيق المادة 10 من القانون المنظم للممارسات التجارية، في ظاهرة تكررت خمس مرات على مدار عشرة أعوام، كما يوثق تحقيق "العربي الجديد"

- لفت تزامن محاولات حكومية لتطبيق القانون المنظم للممارسات التجاربة في الجزائر، مع ندرة مصطنعة ومتكررة تختفي بعدها سلع استهلاكية أساسية، انتباه رئيس جمعية حماية المستهلك، مصطفى زبدي، والذي وثق المحاولات المتكررة من قبل وزارة التجارة، لتطبيق نص إلزامية الفاتورة، وكيف تقع بعدها أزمة ارتفاع الأسعار، في حين تختفي الندرة والزيادات بمجرد تقاعس أعوان الوزارة عن طلبها من التجار أثناء زياراتهم التفتيشية

وتكررت محاولات تطبيق النص القانوني المنظم للفوترة ثم التساهل وغض الطرف عنه، 5 مرات منذ عام 2010 وحتى اليوم وفقا لزبدي، والذي تقدم بعشرين بلاغا إلى وزارة التجارة ضد أصحاب مصالح تجارية، رفضوا منح المتعاملين فواتير تثبت عمليات البيع، خلال الفترة بين 1 و20 أغسطس/آب الماضي.

 كيف يتم التلاعب بقانون الممارسات التجارية؟ 

أعادت وزارة التجارة فرض إلزامية الفاتورة بداية من شهر يونيو/حزيران المنصرم، رغم أنها سبق أن وردت في القانون رقم 04-02 الصادر في 23 يونيو/حزيران سنة 2004، والقانون المتمم والمعدل له رقم 10-06 الصادر في 15 أغسطس 2010، والذي يحدد القواعد المطبقة على الممارسات التجارية، وتنص المادة 3 منه على أنه "يجب أن يكون كل بيع لسلع أو تأدية لخدمات بين الأعوان الاقتصاديين مصحوبا بفاتورة أو وثيقة تلزم البائع أو مقدم الخدمة بتسليم الفاتورة"، بحسب ما يوضحه القاضي السابق في محكمة باتنة بشرق الجزائر، والمحامي المعتمد لدى المحكمة العليا في الجزائر خميسي عثامنية. 

وتساهل الوزراء المتعاقبون في تطبيق القانون، خوفا من تداعيات ارتفاع الأسعار، وعدم القدرة على التحكم في العرض والطلب نتيجة سيطرة لوبيات على قطاع السلع الأساسية، بينما لا تستطيع مصالح وزارة التجارة تعقبهم لعدم امتلاك سجلات تجارية، كما يقول زبدي، مؤكدا أن الدولة ضعيفة أمام التجار بسبب غياب ملف رقمي يتضمن كافة المعطيات حول أعدادهم ومجالات عملهم، وكذلك نفس الأمر بالنسية إلى الفلاحين وحجم منتوجهم، ما يسهّل من عملية المضاربة على الأسعار، إذ بمجرد تدقيق مصالح وزارة التجارة في مدى تطبيق نظام الفاتورة يسعى الموزعون إلى احتكار القوت، وخلق ندرة مصطنعة عبر إخفاء المنتجات الغذائية، لتضطر الحكومة إلى التراجع عن إلزامية الفاتورة. 

وتورطت، حسب زبدي، في التجاوزات الموثقة لوبيات من أصحاب مطاحن قمح وتجار جملة لمادة زيت المائدة والحليب وأصحاب مصانع مواد غذائية، وتابع في إفادة لـ"العربي الجديد"، أزمة ندرة وارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية، والتي ظهرت بقوة منذ 15 يوليو/تموز، مردها رفض تجار ومنتجين الخضوع إلى نظام الفاتورة، حتى لا يصرح هؤلاء برقم أعمالهم الحقيقي من أجل التهرب من الضرائب.

مضاعفة هامش الربح 

يفترض أن يعادل سعر القنطار (100 كيلوغرام) من الفرينة 3500 دينار أي 26 دولارا، ويعادل هامش الربح لتجار الجملة 200 دينار أي 1.48 دولار، ولدى تجار التجزئة 300 دينار أي 2.22 دولار، وفقا للمرسوم التنفيذي رقم 16 /87 المنشور على الموقع الإلكتروني لوزارة التجارة، لكن بعض تجار الجملة يستفيدون من هامش ربح يصل إلى 500 دينار عن القنطار 3.7 دولارات، وفقا لرئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين الجزائريين الحاج الطاهر بولنوار، مؤكدا أن بعض الخبازين متورطون في الندرة وليس فقط أصحاب المطاحن، إذ يتهرب هؤلاء من الفاتورة ويرفضون الشراء من المطاحن مباشرة، ويفضلون التعامل مع تاجر الجملة دون فاتورة وبسعر أعلى على التعامل مع المطحنة وتقديم الفواتير، حتى لا يصرحوا بحجم أعمالهم الحقيقي، وبالتالي لا يسددون الضرائب عنه. 

وأردف بولنوار قائلا: "هذه التجاوزات أدت إلى ارتفاع سعر رغيف الخبز في محلات التجزئة من 10 إلى 15 ديناراً (الدولار يساوي 138 دينارا)"، ويؤكد بولنوار أن الفاتورة هي أول ما يطلبه أعوان الرقابة الذين توفدهم بشكل يومي وزارة التجارة، سواء من صاحب المطحنة أو تاجر الجملة بداية من شهر يوليو الماضي، وتظل إلزامية، إلا أن التجاوزات تكمن في التلاعب بحجم القمح الذي يخرج من المطحنة أو الذي يسجله تاجر الجملة في الفاتورة كما السعر أيضا، عبر التصريح بقيمة منخفضة، في حين أن البيع تم بسعر أعلى، ليظفر تاجر الجملة أو مالك المطحنة بفارق السعر، كما يضطر الخباز إلى بيع الخبز بسعر أعلى بحكم أنه يقتني القمح بسعر مرتفع، وبالتالي يخسر المستهلك لأن السلعة ستصله إلى محل التجزئة بسعر باهظ. 

ووفقا للتحقيقات التي باشرتها جمعية حماية المستهلك وشملت كافة ولايات الوطن، جرى ضبط 3 مطاحن على مستوى ولاية الجزائر العاصمة، تضع سعر الفرينة (القمح اللين) المدعم من قبل الدولة في ملصق أعلى الكيس، وسعر البيع الحقيقي في ملصق آخر، موجود أسفل الكيس، لتبيع القمح مباشرة إلى الخباز بسعر مرتفع، ويقبل هو بهذا التجاوز خوفا من إقصائه من التموين بكيس "الفرينة" بحجة نفاد المادة، ويضطر هو الآخر لرفع سعر الخبز، وهو ما أحدث أزمة في السوق. 

ويفرض القانون الجزائري عقوبات صارمة على رافضي منح الفاتورة، وكذلك على المتسببين في احتكار القوت وخلق ندرة المواد الغذائية، ويعاقب عليها بغرامة بنسبة 80 في المائة من المبلغ الذي كان يجب فوترته مهما بلغت قيمته، تطبيقا لأحكام المادة 33 من قانون الممارسات التجارية، كما أن المضاربة تعد جريمة، إذ تنص المادة 172 من قانون العقوبات 90 /15 على أنه "يعد مرتكبا لجريمة المضاربة غير المشروعة ويعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات وبغرامة من 5 آلاف دينار (37 دولارا)، إلى 100 ألف دينار (740 دولارا)، كل من أحدث بطريقة مباشرة أو عن طريق وسيط رفعا أو خفضا مصطنعا في أسعار السلع أو البضائع أو الأوراق المالية العمومية أو الخاصة أو شرع في ذلك".

اعتراف رسمي 

يعترف مدير تنظيم الأسواق والنشاطات والمهن المقننة بوزارة التجارة، أحمد مقراني في إفادة لـ"العربي الجديد" بأن مسؤولي وزارة التجارة المتعاقبين على القطاع لم يطبّقوا نص الفاتورة القانوني، وتساهلوا في ذلك لمنع التجار من الضغط عبر رفع أسعار القوت، مستغلين في ذلك غياب الملف الرقمي لحجم الأنشطة الإنتاجية والتجارية، وبالتالي غياب إمكانية منع المضاربة.

ما سبق يؤكده رئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين الجزائريين قائلا: الحكومة تراجعت 5 مرات عن فرض إلزامية الفاتورة خوفا من المضاربة، وتابع: "الفاتورة مفروضة وفقا لقانون الممارسات التجارية وتعديله الصادر في 2010، ولكن الحكومة تراجعت عن إلزاميتها سنة 2011، دون فرض قانون جديد، واكتفت بعدم التدقيق مع تجار الجملة والموزعين، بعد ندرة حادة في الزيت والسكر، وهما مادتان أساسيتان مدعمتان من طرف الحكومة الجزائرية، وتسبب فيها المنتجون والموزعون". 

ضعف الدولة أمام التجار والمحتكرين نابع من غياب معطيات رقمية

ووفقا لبولنوار عادت الحكومة لفرض إلزامية الفاتورة بداية من سنة 2015، بأمر من وزير التجارة آنذاك، دون سن قانون جديد أو قرار رسمي، إلا أنها عادت لتتساهل مع التجار الذين افتعلوا ندرة في المواد الأساسية، ثم فرضت إلزامية الفاتورة مرة أخرى عبر المادة 4 قانون المالية التكميلي لسنة 2018، والتي تنص على أن: "يلزم البائع أو مقدم الخدمات بتسليم الفاتورة أو الوثيقة التي تحل محلها ويلزم المشتري بطلبها منه"، ولكن هذه المادة لم تطبق ميدانيا. 

وبداية من شهر مارس/آذار2021، فرضت الحكومة إلزامية الفاتورة لتجار الجملة، ولكن بروز أزمة زيت المائدة إلى الواجهة من جديد، وارتفاع أسعاره في سوق التجزئة، رغم أنها مسقفة من طرف الحكومة، دفع بالسلطات لإغماض أعينها عن إلزامية الفاتورة مرة أخرى، قبل أن تعاود فرضها بداية من 20 يوليو المنصرم، ولكنها تظل إلى غاية اليوم غير مطبقة بشكل صارم. 

ويرد مقراني على تراجع الحكومة المتكرر عن إلزامية الفاتورة، بأن السلطات كانت تختار الحفاظ على استقرار الأسواق، ومنع أي مضاربة من طرف التجار الذين يرفعون الأسعار بمجرد إلزامهم بالفاتورة، آخرها شهر مارس المنصرم، حيث لم تسع لتطبيقها بسبب الوضع الصحي وتفشي فيروس كورونا، وبالتالي هدفت إلى تسهيل المعاملات التجارية، وتابع بأن إجبارية الفاتورة مطبقة في الجزائر منذ 20 يوليو2021، وأن موظفي الرقابة على مستوى الوزارة والمقدر عددهم بـ 8 آلاف مراقب، ينزلون يوميا إلى الأسواق في كافة ولايات الوطن، لمعاينة التزام التجار بالفواتير، والتي تشمل بالدرجة الأولى المواد الغذائية واسعة الاستهلاك والخضر والفواكه واللحوم البيضاء والحمراء، كما تم فرض وثيقة مشابهة للفاتورة، بالنسبة للفلاحين وتجار الماشية (تتضمن كافة معطيات السلع محل البيع والشراء ولكن لا تحتوي على حجم العمل)، بحكم أن معظمهم غير مؤمنين ولا يصرحون بنشاطاتهم لدى الضرائب يطلق عليها اسم "دي تي إل إف". 

صراع الحكومة مع لوبيات غذاء الجزائرين

سر الإلغاء المتكرر 

وجه إسماعيل قوادرية، رئيس لجنة الشؤون الاقتصادية بالبرلمان الجزائري عن حزب المستقبل (موال للسلطة)، سؤالا إلى وزير التجارة كمال رزيق بخصوص إلزامية الفاتورة، وطلب منه تفسيرات عن سبب إلغائها في كل مرة، ليرد الأخير بأن ضعف الدولة أمام التجار والمحتكرين نابع من غياب أرقام حقيقية ومعطيات رسمية عن حجم المنتوجات المتوفرة في السوق، نتيجة غياب ملف رقمي يتضمن كافة المعطيات عن التجار والموزعين والوسطاء والمتعاملين الاقتصاديين الناشطين في السوق وحجم تعاملاتهم، وهو ما ورثه النظام الحالي من سابقه. 

60 مليار دولار حجم أعمال السوق السوداء في الجزائر

ويؤكد قوادرية لـ"العربي الجديد"، أن فرض الفاتورة عدة مرات في الماضي، وحتى اليوم، ناجم عن ضغوط التجار، بالرغم من رغبة الدولة في استرجاع الأموال المتواجدة في السوق السوداء، والتي قدرها النظام السابق بـ 60 مليار دولار عبر إلزام أصحابها بالتصريح بها لدى السلطات الرسمية، وهو ما يتحقق عبر الفوترة، وأيضا التحكم في تموين المواطنين بالقوت. وخلال سنة 2021 وتحديدا منذ 1 يناير/كانون الثاني إلى 31 أغسطس/آب تم تسجيل 3100 مخالفة متعلقة بالفوترة منها 278 مخالفة مرتبطة بتحرير فواتير مزورة أدت للكشف عن رقم أعمال مخفي للتهرب من الضرائب، بما يعادل 56 مليار دينار (413 مليون دولار)، وفقا لرئيس الجمعية لوطنية للتجار والحرفيين الحاج الطاهر بولنوار.

خلق ندرة في 5 مواد أساسية

رصدت معدة التحقيق، قضايا تثبت تورط تجار جملة ومتعاملين اقتصاديين في خلق ندرة لـ 5 مواد أساسية في السوق، بهدف إلغاء إلزامية الفوترة، وهي الحليب والقمح اللين والصلب والزيت والسكر. ويقول سفيان عبد الكريم عون الرقابة في وزارة التجارة، لـ"العربي الجديد" إن خلق أزمة في مادة الفرينة للضغط على وزارة التجارة لإلغاء إلزامية الفاتورة، تعد أبرز القضايا التي تم اكتشافها من قبل أعوان الرقابة خلال سنة 2021.

ويكشف عون الرقابة عن وجود أشخاص لديهم دفاتر نشاط مزوّرة يتجهون إلى المطاحن لشراء هذه المادة من أجل بيعها بأسعار مرتفعة لتجار الجملة، وأيضا تورط المطاحن في بيع "الفرينة" لبعض الوسطاء وأصحاب مصانع المواد الغذائية بواسطة فواتير مزورة، ليحتكر هؤلاء هذه المادة ويعاودون بيعها بسعر مرتفع جدا، بما يخلق المضاربة والضغط على الحكومة لإلغاء الفاتورة.

وبخصوص أزمة الزيت، أثبتت التحقيقات أن سببها أطراف قامت بترويج إشاعات عبر 70 صفحة في "فيسبوك" مفادها أن الإجراء الجديد الذي فرضته وزارة التجارة، عبر إلزامية الفاتورة، سوف يؤدي بهم إلى خسائر بين تجار الجملة والتجزئة، وتم تحرير محاضر بأسماء الصفحات وتسليمها للجهات الأمنية.

وخلال أزمة كورونا يضيف المتحدث تم فرض الفوترة على المواد المدعمة وواسعة الاستهلاك، إذ كشفت تدخلات أعوان الرقابة، قيام بعض التجار بتكديس الحليب والسكر و"السميد" القمح، في 3 مخازن شرقي العاصمة، إضافة إلى التخزين في المحلات، ووصل عدد التدخلات اليومية من 5 الى 7 تدخلات، جرى خلالها تحرير محاضر بمخالفات تكديس المواد الغذائية في مخازن.

لكن المشكلة الأكبر، بحسب الأمين العام لنقابة مستخدمي قطاع التجارة (المفتشين) أحمد علالي، تتمثل في اعتداءات يومية على المفتشين من طرف بعض التجار الذين يرفضون العمل الرقابي، سواء بسبب التهرب من الفوترة أو بسبب تكديس المواد من أجل المضاربة في أسعارها وتحقيق ربح على حساب المواطن، مضيفا لـ"العربي الجديد": "خلال الأسبوع الأول من أغسطس حررنا 6 محاضر بهذا الخصوص".