من أمثالهم... الصيف ضيعت اللبن (1)

من أمثالهم... الصيف ضيعت اللبن (1)

28 سبتمبر 2021
+ الخط -

إن شئت الإيجاز، فإن العرب تقول للرجل يُفوِّتُ الفرصة على نفسه ثم تتّبعها نفسه "الصيفَ ضيَّعْتِ اللبن"، وإن شئت الوقوف على مبعث هذا القول البديع وتفاصيله؛ فدع عنك الجُملة وإليك التفاصيل.

تلخص الأمثال خبرات حياتية عدة، ربما تكون فردية أو مجتمعية، ولها إسقاطات على مختلف مناحي الحياة، ولخصوصية كل مثل -بالأحرى المناسبة التي قيل فيها للمرة الأولى- فإن العرب تمسّكت بمورد المثل، ولم تغيِّر من صيغته التركيبية، حتى وإن خالفت القواعد النحوية والصرفية، يُرجعون ذلك إلى عوامل متباينة، ومن تلك الأمثال قولهم "الصيف ضيعت اللبن".

ولنفهم سياقات المثل وملابسات مورده، يتعين علينا التعريج على طرف من القصة الأولى لميلاده، ولنبدأ من رائد تدوين الأمثال في العالم العربي، المفضَّل بن محمد الضبي (ت 168هـ)، ويسوق لنا ما مفاده أن عمرو بن عمرو بن عُدُس (ويقال ابن عُدَس) التميمي، كان رجلًا شريفًا من أغنى أغنياء قومه، يضارع عمنا جيف بيزوس، وكأي رجلٍّ كان يحبُّ النساء، وتزوج ابنة عم أبيه واسمها دختنوس بنت لقيط بن زرارة.

واجهت دختنوس معضلة وجودية، المال أم الإقبال على الحياة، لم تتحمل أن تبقى في ظل رجل كبير السن، ففركت (كرهت) الحياة مع زوجها وطالبته بالطلاق -وربما هددته بالخُلع- فطلقها وتزوجت ابن عمها عميرة بن سعيد بن زرارة، وكان شابًا وسيمًا لكنه فقير، بل "فقير قوي".

وتمضي الأيام، وينهش الجوع أمعاء دختنوس، وفي بعض المساءات تمر بخيمتها إبلُ طليقها المسن، وكانت -الإبل- كأنها الليل لكثرتها، فأرسلت جاريتها تطلب منه لبنًا، فلما أخبرته الجارية قال "الصيف ضيعت اللبن"؛ فأرسلها مثلًا، وعادت الفتاة أدراجها، وقصَّت على سيدتها ما وقع بتمامه وكانت دختنوس تجلس إلى جوار بعلها وابن عمها؛ فضربت على كتفه وقالت "هذا ومذقةٌ خير"؛ فأرسلتها مثلًا، ومحدش أحسن من حد!

قال أهل اللغة إن ابن عدس اختص الصيف لأن دختنوس طلبت الطلاق منه في الصيف، وألحت عليه حتى طلقها فيه، فهو بذلك يقول لها يوم طلبتِ الطلاقَ أضعتِ اللبن

المذقة في اللغة الشربة من اللبن الكثير الماء، أي المخلوط بماء كثير، وقصدت أن الزوج الجديد مع فاقته وهزال حاله خيرٌ من الأول على غناه وماله، وقولها يُضرب مثلًا لمن قنع باليسير إذا لم يجد الخطير، وقريبٌ من هذا المعنى قول امرئ القيس (وقد طوَّفتُ في الآفاقِ حتَّى/ رضيتُ من الغنيمةِ بالإيابِ).

هذه مجمل القصة التي أوردها المفضل الضبي، وهي مورد مثلنا، لكن الأمر يحتاج إلى تفصيل، إذ تبرز أسئلة: لماذا اختار الصيف على وجه التحديد؟ وما وجه الاختلاف في ضيعت؟ وهل ثمة روايات مغايرة لما ذكره الضبي؟ وإذا لم يكن في هذا المثل تشبيه؛ فعلام قام التمثُّل به والاستشهاد في عالم الأمثال؟ ومتى يُتمثَّل به؟ وما أشباهه في العالم العربي اليوم؟

قال أهل اللغة إن ابن عدس اختص الصيف لأن دختنوس طلبت الطلاق منه في الصيف، وألحت عليه حتى طلقها فيه، فهو بذلك يقول لها يوم طلبتِ الطلاقَ أضعتِ اللبن. في "الزاهر في معاني كلمات الناس"، قال أبو بكر بن الأنباري (ت 328هـ) إنه ذكر الصيفَ لأن فيه تكثُر الألبان، وهو يُضربُ للرجل يتركُ الشيء وهو ممكن، ويطلبه وهو متعذِّر، ويريد لقد طلبتِ الشيء في غير وقته.

وهنا يلاحظ أن حديثه لامرأة (دختنوس)، ومن ثم جاء الخطاب للمؤنث، وبه يقال المثل حتى وإن خوطب به المذكر أو المؤنث أو المثنى أو الجمع، لا فرق في ذلك، إذ الاحتكام إلى مورد المثل.

وهذه الخصوصية معروفة في الأمثال، ومنها قولهم "ماذا وراءكِ يا عصام" (بكسر الكاف)، مهما اختلف المخاطَب، وقولهم "أَطِرِّي فإنَّكِ ناعلة"، وقولهم "أَطْرِقْ كَرَا"، وكذلك في مثلهم "أصبحَ نومانُ". يفسر أبو هلال العسكري ذلك بقوله "ويقولون الأمثال تُحكى، يعنون بذلك أنها تُضرب على ما جاء عن العرب، ولا تُغيَّرُ صيغتها؛ فتقول الصيفَ ضيَّعْتِ اللبن؛ فتكسِرُ التاء لأنها حكاية".

وقال غيره إن المثل يشتمل على استعارة، ولذلك لا تُغيَّر الأمثال بل تُروى على حالها من دون تبديل؛ لأن الاستعارة يجب أن تكون لفظَ المشبَه به المستعمل في المشبَّه، فلو غُيِّر المثلُ لَمَا كان لفظ المشبه به بعينه، ومن ثم لا تكون الاستعارة، وعليه لا يكون مثلًا.

وفق ما سبق، لا يُلتفت في الأمثال إلى مضاربها تذكيرًا وتأنيثًا وإفرادًا وتثنيةً وجمعًا، بل يُنظر إلى مواردها، والاستعارة في مثلنا هذا تمثيلية، ويراد بالاستعارة التمثيلية التركيب الذي يستعمل في غير ما وضِع له، وذلك تأسيسًا على علاقة المشابهة بين المورد والمضرب، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي؛ فكلُّ من طلب شيئًا ضيَّعه قبل ذلك يُتمثَّلُ فيه بقولهم "الصيفَ ضَيَّعْتِ اللبن".

رواية أخرى

ينقل لنا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255هـ) في كتابه "المحاسن والأضداد" موردًا آخر لهذا المثل، يختلف في ملابساته وصيغته كذلك عما وصلنا عن المفضل الضبي، إذ يقول "أول من قال في الصيف ضيعت اللبن هو قتول بنت عبد، وكانت تحت رجل من قومها فطلقها، إنها رغبت في أن يراجعها -وكانت تحبه- فأبى عليها، فلما غسلت منه يديها خطبها رجل يقال له عامر بن شوذب فتزوجها، فلما بنى بها، بدا للزوج الأول مراجعتها، وهوى بها هوى شديدًا؛ فجاء يطلبها ويرنو بنظره إليها، ففطنت به وقالت (أتركتني حتى عُلِّقْتَ أبيضَ كالشَّطَنْ/أنشأتَ تطلُبُ وصلنا.. في الصيفِ ضيعتَ اللبن).