الفيلم اللبناني القصير: تحوّلات الصورة ومُتخيّلها

الفيلم اللبناني القصير: تحوّلات الصورة ومُتخيّلها

28 سبتمبر 2021
رطل: يُلاحظ انتشار ظاهرة المنصّات التي يؤسّسها شباب السينما وطلاب المعاهد (فيسبوك)
+ الخط -

منذ "حراك 17 أكتوبر" (تحرك شعبي بدأ في تشرين الأول 2019، يسمى حيناً "ثورة" وأحياناً "انتفاضة") شهد الفيلم اللبناني القصير تحوّلات عدّة، سياسية واجتماعية وسينمائية. قدّم سينمائيون شباب أفلاماً قصيرة، يختلف بعضها عن البعض الآخر في المعالجة الفنية والجمالية، لكنّ منطلقاتها الفكرية واحدة، إذْ تقوم أساساً على تخييل الراهن اللبناني، سياسياً واجتماعياً، بما شهده ويشهده من مآزق وأهوال وتصدّعات. لم يكُنْ الفيلم القصير بعيداً عن الحراك، فأسماء عدّة جعلت الواقع اللبناني مُختبراً للتجريب السينمائي، عبر تصوير حكايات وشواهد وتحقيقات وآراء، وإقامة نوع من سجال فكري، افتقدته السينما العربيّة منذ سبعينيات القرن الـ20.

اللحظة اللبنانيّة، بما عرفته من مأساة، مرحلة حاسمة لإثارة النقاش مجدّداً حول ماهية الحدث التاريخي (17 أكتوبر)، وقدرة السينما على نقله إلى الشاشة الكبيرة، أمام حساسية الحدث وسخونته. فالتجربة التاريخيّة العربيّة، التي تعاملت مع الحدث سينمائياً، لم تكُن ناجحة روائياً، بسبب النفس التخييلي الذي تجترحه الصورة، وبالتالي تحتاج إلى وقت أكبر لتنضج الفكرة داخلياً، لأنّ الفيلم الروائي سلسلة من صُوَر تستند على الخيال والإبداع والابتكار، مقارنة بالفيلم الوثائقي، الذي وإنْ تبرّم التخييل، يسقط فيه من حين إلى آخر. هذا جعل الأفلام الوثائقية مُوفّقة إلى حدّ كبير، وأفرز فيلموغرافيا لبنانية تناولت الحرب الأهلية اللبنانيّة (1975 ـ 1990)، وشرّحت آفاقها التاريخية والأيديولوجية. في هذا التحقيق (الأسماء الواردة فيه مرتّبة وفقاً للحروف الأبجدية)، تعكس "العربي الجديد" آراء نقّاد ومخرجين من لبنان والمغرب حول خصوصية الفيلم اللبناني القصير وميزته، على ضوء تحوّلات شهدها البلد، ومدى تأثير ذلك على بنية الفيلم القصير.

جان رطل (مخرج لبناني):
بانتظار أفلامٍ حقيقية

ربما يكون صعباً إنشاء مساحة تحصي أعمال السينمائيين اللبنانيين، الذين أنجزوا أفلاماً قصيرة، توثيقية أو روائية، وذلك لأسبابٍ عدّة، لعلّ أبرزها غياب الراعي الافتراضي، الذي يُفترض به أن يلعب هذا الدور، والمقصود به المكتب الذي يدير هذا الشأن، والتابع لوزارة الثقافة. عندها، يقتصر الحديث عن سينما الفيديو والهاتف المحمول، الذي تحوّل بأيدي صانعي الانتفاضات إلى موثّق للحدث، يُتداول به بصورة جامعة ومغرقة في الانتشار. المعروف أنّ السينمائي يحتاج إلى مسافة من الوقت، ليستطيع التعامل مع موضوعه. في هذا الإطار، يُلاحظ انتشار ظاهرة المنصّات التي يؤسّسها شباب السينما وطلاب المعاهد، كتلك المساحة التي اتّخذت لها اسم "أنا هون (أنا هنا)"، والتي بات لها عشرات الآلاف من المتابعين، خصوصاً في الأيام الأولى للانتفاضة، حين تحوّلت إحدى ساحاتها إلى مولّدة للأغنيات الترفيهية والحماسية أساساً. إلى جانب ذلك، وثّقت الأحداث والخيم التي أنشئت، لشرح أفكار المنتفضين.

كثيرون صنعوا ما يشبه "فيديو كليب" سينمائيا عن كلّ ما يجري. لم يكن هذا وحده نشاطهم، بل أقاموا سرادق وشاشات سينمائية، عرضوا فيها وعليها أفلاماً لأجيالٍ من السينمائيين، ولنتاجٍ محلّي مُنتج في فتراتٍ متفاوتة بين فيلمٍ وآخر.
صحيحٌ أنّ بعض السينمائيين تابع تصوير يوميات الانتفاضة، وبعض مظاهرها، كالتركيز على الشعارات التي غزت واجهات المصارف، أو بقايا المعارك التي تحتدم ليلاّ لتهدأ بقية اليوم، كما فعل هادي زكاك بمثابرة يومية، إذْ كان ينقل صُوراً منها وعنها على صفحته الفيسبوكية.

أمّا أنْ تتحوّل تلك الأعمال إلى أفلامٍ حقيقية، فعلينا الانتظار. هناك من بثّ أفلاماً له على منصّات مفتوحة لمدة من الوقت. كما أنّه يجب أنْ نُدرك أنّ بعض السينمائيين كان يعمل على مشاريع قديمة، سعى إلى إتمامها. كما أنّ حدثاً كانفجار مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/آب 2020 خطف أنظار الجميع، وأعمالهم وموازنات المشاريع، إذْ برزت الجمعيات كمُنتجٍ حاضر لدعم أي مشروع كبير أو صغير، مخصّصة له الإمكانات كلّها لتحقيق وثائقيات وريبورتاجات دعائية، لمواكبة أعمال جمعيات غير حكومية، كانت تنجزها على الأرض. يُلاحظ أنّ غالبية اللقطات أُخذت من كاميرات طائرة، كأنّ ما يعتور نظرتنا أنّ ما نراه نُلاحظه من فوق، أو كأنّ ما يجري لا علاقة له بسكّان الأرض، أقصد الثوّار أو المكلومين بانفجار مرفئهم، وانهيار كمية هائلة من منازلهم.

سليمان الحقيوي (ناقد مغربي):
العبور بالحدث جمالياً

كما تتشابه أوضاع ما بعد الثورة في لبنان، مع نظيراتها في بلدان عربية أخرى شهدت الحدث نفسه، تتشابه أيضاً محاولات التعامل مع الحدث سينمائياً. ومع تشابه دوافع الحدث ومآلاته، تجد السينما نفسها في الظروف نفسها في مجال صنع أفلامٍ وتلقّيها في بلدان أخرى. كما نعلم، يفصلنا اليوم عقدٌ من الزمن عن ثورات عربية في بلدان عربية، كمصر وتونس. تأكّد، مع مرور الوقت، أنّ إخراجَ فيلمٍ ـ ينافس كاميرات الهاتف ونشرات الأخبار، عبر توثيق الحدث من دون جماليات ـ فكرةٌ تخفت سريعاً مع خفوت الحدث نفسه، ثم تتوارى، ما لم تأخذ مسافة من الحدث، والمسافة ليست زمنية بالضرورة، بل أيضاً مسافة مع التوثيق، والفصل بين الواقع والواقعي، والتفكير في الشكل بالحماسة نفسها للتفكير بالمضمون.

هذه المعطيات سابقة على الحالة اللبنانية، التي يُمكن الاستفادة منها لصناعة أفلامٍ لا تحتمي فقط بحرارة الحدث.
يمكن للفيلم اللبناني القصير أنْ يعبر بالحدث عبوراً جمالياً، إذا استحضرنا حضوره اللافت في مختلف المحافل الدولية، في العقد الأخير. هذه التجارب، التي يحضر فيها البُعد الجمالي، تؤكّد أنّ الفيلم اللبناني القصير ليس مجرّد تمرين، بل خيار تؤطّره نظرة فنية متمكّنة. لكنّ مشكلة الدعم تُهدّد كلّ مشروع يسعى إلى استعادة زمن الثورة، سواء صناديق الدعم العربية، التي تسلك الآن طرقاً أخرى لمحو كلّ ما له علاقة بالثورة، أو صناديق دعم أجنبية، لم يعد حدث الثورة يعنيها في شيءٍ، في ظلّ عالمٍ تستجدّ أحداثه كلّ يوم.

عُلا الشيخ (ناقدة فلسطينيّة):
قصصٌ من الشارع

من يتابع تطوّر صناعته، يُلاحظ أنّ الفيلم القصير في لبنان يرتبط عادة بالوضع المحيط بالفرد، وبما يعانيه. أي أنّه يحاكي ما يتمّ تناوله بين الناس، وهذه ميزة له. ومع أنّ موضوع الحرب اللبنانية لا يزال يتصدّر السينما القصيرة، كما الأفلام الطويلة والوثائقية، لم يمنع هذا صنّاع أفلامٍ من أنْ يكونوا على قدر المشكلات الاجتماعية والإنسانية الراهنة، التي أصبحت الخبر الأول في النشرات الإخبارية. وأيضاً موضوع الطائفية، من خلال أسماء لمخرجين، قرّروا أنْ يُعاتبوا ذويهم عليها. كما تمّ تناول حلم الهجرة.

هذه القصص كلّها مرآة لما يحكيه الشارع. مع كل ما يحيط بطريقة صنعه عامة، وتحديداً بما يخصّ سقف الحريات، لا يزال الفيلم اللبناني خجولاً أو خائفاً أحياناً في التطرّق إلى الاتهامات المباشرة للأشخاص الذين تسبّبوا في هذا الدمار، لأنّه يُدرك العقوبة. هنا الحديث عمنّ يرى في صناعة الفيلم طريقة تعبير عن رأي. وهذا الشكل من الصناعة يرتبط دائماً بالوضع السياسي والاجتماعي، وبالفساد والمحسوبية، تجده عادة في الأقطار التي تعاني حروباً، وفيها لصوص أحلام الناس، كالسينما الفلسطينية، التي يصعب أنْ تُقدّم فيلماً ترفيهياً، وحتّى لو قدّمته، لا بدّ من المرور في ما يحيط بواقع البلد.

في لبنان، في هذا الوقت الصعب الذي يتابعه العالم، ومع كلّ التخبطات، برزت أفلامٌ قصيرة أهمّ وأدقّ وأصدق من كلّ نشرات الأخبار. استطاعت بخفة أنْ تكون جواباً. أسماء بدأت بالظهور لجيل من الشباب الواعي بواقعه، والمتمرّد على الموروثات التي أخّرت خطواته، فأصبحت "ثورة 17 أكتوبر" الحكم، وأصبح لا بُدّ على كلّ من قرّر أنْ يحكيها في فيلمٍ أنْ يكون على قدرها، وليس أقلّ منها.

محمد اشويكة (ناقد مغربي):
قدرة تعبيرية هائلة

يعرف العالم العربي، بدرجات مختلفة، دينامية كبيرة في مستوى إنتاج الأفلام القصيرة وإخراجها، ما يؤشّر على قدرته التعبيرية الهائلة، وقدرته اللحظية على مواكبة تحوّلات المجتمعات العربية. يمكن تفسير هذا النمو بانفتاح فئة كبيرة من الشباب على هذا الجنس الفيلمي، بفعل الاحتكاك بمجالات التصوير والإضاءة والصوت والمونتاج، التي صارت رائجة عبر الإنترنت، فضلاً عن إيجاد منصّات إلكترونية ملائمة لترويج تلك الأعمال. وبما أنّ الأعمال الاحترافية لا تروج إلا في المهرجانات الوطنية والدولية، أو في بعض القنوات التلفزيونية المهتمّة، فإنّها لا تصل إلى عموم الناس، ما يحجبها عن الظهور أسوة بالفيلم الروائي الطويل.

التجربة اللبنانية، في مجال الفيلم القصير، تظلّ بعيدة عن الجمهور العربي الواسع. لكنّ المهتمّين يعرفون قيمتها الإبداعية، والدليل رواج أعمال عدّة منها في الأعوام الأخيرة، بفضل الارتفاع الظاهر في عدد خرّيجي طلبة الجامعات والمعاهد، التي تعنى بقطاع السينما.

من أهم تلك التجارب، المتوّجة في مهرجانات عربية ودولية، هناك مثلاً الفيلم التجريبي "إلى حيث"، لباميلا نصور، و"الجفت الواوي الذئب والصبي" لوليد مونّس، و"منارة" لزين ألكسندر، و"أمي" لوسيم جعجع، وغيرها، وهذه تختلف شكلاً ومضموناً عن بعضها البعض، كاشفةً عن صعوبة المقاربة الهوياتية لهذا النوع الفني، الذي يعتبره البعض تمارين تقنية وفنية، للمرور إلى ما سيأتي من أفلام طويلة. فقليل من الأفلام اللبنانية، والعربية أيضاً، يُقدّم قصّة مكتفية بحدّ ذاتها، أي بوصفها أصيلة وفريدة، ما يجعلها قابلة لأنْ تكون فيلماً طويلاً، إلا في ما ندر من الحالات.

المساهمون