تناتيش ونغابيش

تناتيش ونغابيش

27 سبتمبر 2021
+ الخط -

ـ في كتابه (الذين أحبوا مي) يروي الكاتب الكبير كامل الشناوي مجموعة من الحكايات الممتعة عن مشاهير جيله من الكتاب الذين ارتبطوا بعلاقات عاطفية مع الكاتبة الشهيرة مي زيادة، من بينها حكاية عن الكاتب الدكتور شبلي شميل الذي يصفه بأنه "كان شيخا طاعنا في السن وقد انتهى به تفكيره إلى الإلحاد عن الأديان جميعا وإنكار وجود الله، وكانت مي تقول له: إني أعجب لك كيف تكفر بالله وتؤمن بداروين. وكانت تقول عنه إنه متعصب للإلحاد وترى أن منطقه غير مفهوم. وكان شبلي شميل عصبيا دمويا مريضا بالربو في صوته غلظة وفي حركاته حماقة، وكثيرا ما رفع عصاه في صالون مي مهددا بضرب من يجادلونه في عدم وجود الله، وقد كان نجيب هواويني ضحيته أكثر من مرة. كان حافظ ابراهيم يقول إن الدكتور شميل أعجبه صوت أحد المطربين فظل يستعيده وبدلا من أن يقول مثلنا: الله الله، كان يقول: الطبيعة الطبيعة".

ذات يوم طلب أحد من يسميهم كامل الشناوي بـ "مرتزقي الصحافة" من الدكتور شميل نقوداً فلما رفض هدده الصحفي بكتابة مقال يؤذيه فضحك شميل وقال: وهل تظن أني ممن يخافون التهديد؟ هل أنا عمدة؟ أنا لا أعبأ بالتهديد. فقال الصحفي المرتزق: هل تعرف موضوع المقال؟ فقال شميل: لا يهمني، فقال الصحفي المرتزق: سأثبت في المقال وجود الله، وهنا فزع شميل وقال: ما دام الأمر كذلك خذ ما تشاء، وهكذا كانوا يشهرون بالدكتور شميل وكان هو يجهر بإلحاده، حتى إن حافظ ابراهيم رثاه بقصيدة قال فيها: 
جزع العلم يوم مُتّ ولكن
أمِنَ الدينُ صولة الكفار.

...

وسط رفوف مكتبة الأكاديمية الأمريكية القائمة فوق تل جانيكولوم والمطلة على مدينة روما، التقى الروائي الأمريكي جور فيدال بالأكاديمي الأمريكي الشهير م. ي. فنلي صاحب كتاب (عالم الأوديسة) الذي أصبح مرجعاً رئيسياً في دراسات العالم الأغريقي بالأخص في فترة القرن الخامس قبل الميلاد. تبادل الاثنان المديح المهذب، خصوصاً أن فنلي كان معجباً برواية (جوليان) التي كتبها فيدال، وقال له فيدال إنه استعار "بلا رحمة" من كتبه حين كتب روايته (خلق)، وتحدثا أيضاً عن تجربة اضطرار فنلي للاستقرار في إنجلترا بعد طرده من أمريكا في حقبة الخمسينات حين هيمنت المكارثية على البلاد.

حين قام فيدال بسؤال فنلي عن أحد زملائه المؤرخين الذي كان قد كتب عن زرادشت: "هل يُعتمد عليه؟"، فقال له فنلي إنه "الأفضل في هذا المجال"، ثم تحرك طقم أسنان فنلي في فمه وأضاف: "طبعاً لقد اختلق معظمه كما نفعل جميعاً"، وهو ما علق عليه فيدال بقوله: "كما يعلم كل أبله، إن الرواية التاريخية لا هي تاريخ ولا هي رواية، فالتاريخ يعني حواشي واستشهادات دقيقة من آخرين راسخين في المجال"، وبعد أن استطرد فيدال في الحديث عن بعض الروايات التاريخية التي حققت نجاحات كبيرة بين القراء، يسأل فيدال قارئه قائلاً: "لماذا نؤلف رواية تاريخية بدل أن نقرأ التاريخ؟"، ثم يجيب: "لأنه عند التعامل مع فترات زمنية سحيقة في القدم، سوف يعمد الكاتب إلى اختلاق كثير في كل الأحوال، كما اعترف فنلي بشكل مبهج، كذلك إنه من دون استخدام المخيلة التاريخية، حتى التاريخ التقليدي لا قيمة له".

يبقى الشاهد أن الشائعات يمكن أن تكون سبيلا إلى إدراك كيف يرى الشعب حاكمه. فإذا كان يراه عاشقا لظلم العباد مثل عبد الناصر وجدت الشائعات تقول إن متعته الخالصة كانت في حضور حفلات تعذيب معارضيه التي كان يذهب إلى السجون ليلا لحضورها

اختار جور فيدال أن يحكي هذا كله في مقدمة الطبعة التي صدرت عام 1993 لروايته (جوليان)، خاتماً المقدمة بعبارات بديعة قال فيها: "يمكن أن يكون الجنس البشري قد بُرمج كالطفل الوليد، وأن السلالة البشرية تنتقل من مرحلة إلى أخرى كما ينتقل المرء من الطفولة إلى البلوغ إلى النضج ثم التوالد ثم إلى الموت، ويبرز سؤال يبثّ القشعريرة: وأين نحن الآن؟ أفي منتصف العمر أم الشيخوخة أم ماذا؟ هل من درس نتعلمه اليوم من التاريخ؟ كلا. اليوم هو التاريخ، أيضاً وهذا ما يجعل تفحصه أمراً مثيراً جداً".

....

رغم كل الوقت الذي مضى على إعدام الرئيس العراقي صدام حسين لازلت أتلقى من حين لآخر رسائل على بريدي الإلكتروني يحلف مرسلوها لعموم مستخدمي الإنترنت أن صدام حسين لازال حيا ويرزق وأن الأمريكان وقعوا في الخيّة التي نصبها لهم المهيب الركن الذي لبِّسهم شبيهه الذي زرعه في الحفرة إياها ليتفرغ هو لقيادة المقاومة حتى قيام الساعة، بينما يقسم مرسل رسالة أخرى أن صدام عقد تحالفا مع الأمريكان لتنفيذ عملية إعدامه كده وكده مصحوبة بتمثيلية الرقص الشيعية على جثته لكي يساعدهم في إشعال أجيج الفتنة الطائفية التي تعطيهم مبررا للبقاء في العراق.

بعدها اكتشفت أن الموضوع تجاوز إطار "الهرتلة الانترنتية" ليجد له أنصاراً وسط أصدقاء كنت أثق في رجاحة عقولهم، بعضهم حاول إقناعي بكتب وتقارير صحفية يقدم كل منها نظرية مختلفة تصب في معنى واحد أن صدام حي لم يمت. وليس عندي تفسير لهذه الرغبة الجامحة في عدم تصديق موت صدام سوى أنه لكثرة ما أزهقه من أرواح، ترسّب في الوعي الجمعي أن روحه لن تزهق بسهولة، وهو ما ذكرني بمعنى قاله في سياق المدح لا الذم عمنا وتاج رأسنا أبو الطيب المتنبي: 
حصدت من الأرواح ما لو وهِبته
لهُنِّئت الدنيا بأنك خالد

قبل صدام وقبل المتنبي أيضاً يروي لنا التاريخ كيف يخلق الناس للطاغية تاريخا متخيلا يحولونه إلى حقيقة لا مراء فيها. ليس هناك من هو أشهر طغيانا في تاريخنا العربي من الحجاج بن يوسف الثقفي الذي يبدو إلى جوار طغيان صدام ملاكا حائرا، والذي أراح أهل زمانه أنفسهم من عبء مقاومة طغيانه بأن اخترعوا له قصصا تجعل سفكه للدماء أمرا نافذا لا سبيل لدرئه، فقالوا كما ينقل ابن كثير في البداية والنهاية أنه لم يرضع من ثدي أمه إلا بعد أن سقاه أهله دم جدي، مؤرخون آخرون قرروا أن يخلدوا الحجاج بشائعات تجعله مسخرة عصره فقالوا أن الحجاج ولد دون ثقب في مؤخرته وتم ثقبها خصيصا لكي يعيش، غيرهم كان أكثر حقارة، كما ينقل الكاتب العراقي الدكتور رشيد الخيون في كتابه الممتع (طروس من تراث الإسلام) فقرر أن يستأسد على والدة الحجاج قائلا أنها كانت مزواجة طلقها المغيرة بن شعبة لقذارتها حيث كان الطعام يبات بين أسنانها فتصحو كريهة الرائحة صباحا، ناهيك عن اتهامها بأنها صاحبة البيت الشعري الشهير " هل من سبيل إلى خمر فأشربها.. أم من سبيل إلى نصر بن حجاج" والذي سمعه سيدنا عمر فطرد نصر بن حجاج من المدينة، مع أن الغلبانة كانت تقيم في الطائف زمن عمر، لكن الناس قرروا أن يجعلوها تدفع ثمن طغيان ابنها.

بعيدا عن لغو التاريخ أو صدقه يبقى الشاهد أن الشائعات يمكن أن تكون سبيلا إلى إدراك كيف يرى الشعب حاكمه. فإذا كان يراه عاشقا لظلم العباد مثل عبد الناصر وجدت الشائعات تقول إن متعته الخالصة كانت في حضور حفلات تعذيب معارضيه التي كان يذهب إلى السجون ليلا لحضورها. وإذا كان الشعب يراه هلاسا عظيما مثل السادات وجدت الشائعات تقول إنه كان يحتفظ ضمن حاشيته بموظف مختص بوضع الحشيش في البايب الذي يشربه. أما إذا كان الشعب يترقب رحيله بعد طول مكوث ويستبعد ذلك مثل مبارك وجدت الشائعات تعزو صحته إلى أنه يصحو كل يوم ليقضي ساعتين في غرفة مليئة بالأوزون الذي ربما اتخرم لكثرة استهلاك الحاكم له، أما إذا كان يرى أن الحاكم همه على بطنه مثل مبارك أيضاً وجدت الشائعات تقول إنه يأكل كل يوم على الريق اثنين كيلو جمبري مسلوق ليكون هذا هو التفسير المنطقي وقتها لارتفاع أسعار الجمبري، وكلها شائعات لم تعد تسمعها في عهد السيسي، لأن سطوة الخوف من القمع ستظل طبعاً أقوى من شهوة إطلاق الشائعات.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.