محمد الأسعد.. خمسون عاماً في تحرير الوعي

محمد الأسعد.. خمسون عاماً في تحرير الوعي

23 سبتمبر 2021
(محمد الأسعد)
+ الخط -

اختارَ محمد الأسعد، الذي رحل الثلاثاء الماضي، طريقَ العمل الدؤوب الصامت على الشهرة الفاقعة، وأدنى فخاخها هَدرُ أوقاتٍ نَفيسة وإراقة ماء وَجهٍ. فضّل "الأستاذ" تمضيتها في القراءات المتنوّعة والمراجعات العميقة. كانَ صاحبَ مشروعٍ مُتكامل واضح المَعالم: القراءة التفكيكيّة للفكر الاستعماري - الغربيّ وتعرية ما في نِظامه من تناقضاتٍ وتصدّعات. لا يبعد توجُّهه عمّا اجتَرحه إدوارد سعيد ومطاع صفدي وعبد الله العروي وغيرهم من مُعاصريه، إلّا أنه تميّز عنهما بفرادة زاوية النّظر التي اختارها.

فقد وَلج إلى رحابة الحقل الثقافي - والأدبُ في صَدارته - عبر بوّابة عِلم الآثار، حيث حلّلَ مبادئ تأويل المستشرقين للألواح والمحفورات، تلك التي قرأوها من أجل كتابة "تاريخٍ" مائعٍ، ينتقون منه ما يلائم توجهاتهم ونَزعاتهم. كما فكّك ما سماه "الخُرافات" بمعنى السرديات الاستعلائيّة التي يرسمها هذا الخطاب الاستشراقي عن ذاته حتى يظلَّ الغرب "سيّد العوالم"، لا يشاركه في إنتاج المعارف والقيَم أحد. وركّز في كل ذلك على مفهوم الثقافة بما هي عمل تحريريّ، يطلق الوعيَ من قيود الخرافة والزيف والتفاهة.

وتميّز عنهم بحمل الهمّ الفلسطيني جوهرًا ثابتًا في مقالاته، التي كانت نقدًا رصينًا للمركزيّة الثّقافيّة، مع أنها صيغت في انفتاحٍ لافتٍ على صنوف القول وأفانين الكلام، إذ إنه جرَّب، على مدى الخمسين عامًا الماضية، كافّة الأجناس وخاضَ غمارَها شعرًا وروايةً ومسرحًا وحتى سيرةً ذاتيّة، ناقلًا آلامَ المنفى وهشاشة الوجود، مُصوّرًا ما فيه من غُربة واقتلاع.

ولطالما شدّني أسلوبه بوضوحه وعمقه وحداثته، في أبنيته وتراكيبه، لا يخادع ولا يمالئ، لا يستعمل من الكلمات والمفاهيم إلّا تلك التي تُصوّر الفكرة في صدقٍ، ولم يتنازل البتّة عن شرط الوضوح والصّرامة. تؤدّي عباراتُه معناها وقد تحرّرت، مثل وَعْيه، من أثقال البلاغة المهترئة كما من المضامين الجوفاء التي تطمس حريّة الضّمير.

أكّد بكلّ كلمةٍ قالها أنّ دورَ الثقافة إنّما هو تحرير الوعي

أكّد بكلّ كلمةٍ قالها أنّ دورَ الثقافة إنّما هو تحرير الوعي من تبعات الاغتراب والتزييف والافتراء، ولذلك جاءت كتاباته دون مُجاملةٍ ولا مبالغة، ترِدُ الفكرة خلالها في قالب أدبيٍّ مناسبٍ، شأن المعادلات الرياضيّة التي لا حشو في تآليفها ولا تعقيد، بل اقتصادٌ ودلالة. وبهذا الأسلوب خاض في سائر الموضوعات والأجناس دون أن يفارقه الهمّ الفلسطيني، حاملًا أثقاله ومراعيًا كرامة قضيته وعَدالتها، صارمًا مع ذاته ومع غيره، لا يقبل أيّ تهاون في عرض الفكرة ولا يُداهن في طريقة التعبير عنها ولا شكل صياغتها، يتعقّب تلاعبات الخِطاب ويفضح قصور أشباه المثقّفين ولغاتهم الخشبيّة.

لم يتنازل عن واجب الصياغة الشعريّة في كلّ ما صاغه نثرًا، أكان روايةً أم ترجمةً، نقدًا أدبيًّا أم بحثًا في حفريات العالم العربي. وكانت حُرقة التجذّر في أرض فلسطين التي اقتُلع منها صغيرًا، فظلّ يطوف بين البلدان دون "جواز سفر"، يبحث عن ذَوب العبارة وصفائها، فكان يخرجها مُضمّخة بذلك الألم الدفين والتحدّي الثابت الذي لم يلِن يومًا. لطالما كنت أتعجّب من رجلٍ درَسَ التجارة واختبر نظريات الأرقام والمقاييس والإحصاء كيف ينتقل إلى اقتصاد الكلمات حيث كان كلّ حرف في محلّه دون تضخم ولا قصور، لا إفراطَ ولا تقتير، جدلية ذَهبٍ وأدبٍ تتجلّى، كَأحلى ما يكون.

ولطالما حاولتُ تقليدَ أسلوبه فلم أظفر بشيءٍ، سوى مزيدٍ من الإعجاب بأسلوبه. وبموسوعيّته كان إعجابي يكبر بقدر رحابة الآفاق التي يرتادها، من السينما إلى شعر الهايكو، ومن بساتين البصرة إلى شوارع أميركا وحتى واحات الجريد بالجنوب التونسي، مرورًا بمعالم العراق التاريخيّة وشاهقات الكويت، وفي كلّ شبر من هذه البلدان، كان يترسّم تربةَ فلسطين، قاعًا راسخًا، لا يرين ولا يلين عنه الصمود.

بسذاجةٍ، سألتُ يومًا صديقًا مشتركًا لنا: لماذا لم ينل الأستاذ الشهرةَ التي تناسب حجمَ عمله؟ أجابني: إنه يرفض الوقوع في فخّ المؤتمرات واللقاءات التي غالباً ما تتحوّل إلى مهازل أو مهاتراتٍ، ابتعدَ عن الأضواء وفضّلَ أن يسلّط هو الضوء على تهافُت المَعارف الزائفة التي يرسّخون بها استعمارًا بغيضًا أو تبعية مقيتةً.

الآن فهمت شدّته على مثقّفينا. ظلّ وفيًّا لذاته ولتاريخه وكرامة ألمه التي حفظها من أي تنازلات. أصرّ على وَحدَته، هناكَ، في شقته البسيطة بالعاصمة الكويتية (حيث أضافني بكرمه البالغ قبل سنوات، وشاهدت على جدرانَها رسوماً أصليّة لناجي العَليّ)، يَعمل في مَكتبته في مُثابرة وإتقان، يحتضن الشِّعرَ أفقًا، قاعُهُ أرضُ فَلسطين، التي أُبعدَ عنها صغيرًا، نبعٌ في عقله وقَلبه لا ينضب، مثل مقالاته التي تُلهم جيلنا. علّمني كيف أكون حرًّا، وسأظل أغبطه على صرامته مع نفسه وعلى سيولة قلمه في جماليّة صادقة. ولا شيء يعزي أسرته وأحبّته سوى رحيله في عزّ العطاء، عَزيزًا.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

موقف
التحديثات الحية

المساهمون