قصف جبهة (2)

قصف جبهة (2)

20 سبتمبر 2021
+ الخط -

إذا قلَّ علم المرء ضلَّ وادّعى، ومن ذلك أن رجلًا قال للحسن البصري: أنا أزهد منك وأفصح، قال "أمَّا أفصح فلا"، قال: فخذ عليَّ كلمة واحدة؛ فقال الحسن "هذه"..

يمثل هذا الموقف حكمة بالغة في الرد وقصف الجبهة، لست في حاجة لمُعلَّقة طويلة أو مجمهرة تفحِم بها المدعي المتشبع بما لم يُعطَ، تكفيك الإشارة واللمحة الدالة، وتُغنيك عن الشروح والهوامش، وتعال نفتش في جواب الحسن، وميّز سلوك وتصرّف كل مدّعٍ تلقاه.
والموقف هذا، فإنه يمكن حمل حِجاج الحسن للزاهد الفصيح -وفق زعمه- على محمل المادية، إذ إن الزهد والتقوى لا كيْل فيهما أو وزن بمقاييس الدنيا، وقد قال سيد البشر وهو يشير إلى صدره الشريف: "التقوى ها هنا"، وعليه فلا يمكن تكذيب المدّعي بصورة قاطعة، الجدل معه لن يزيد عن مراوحة في المكان!

في الوقت ذاته، ليس المقام مقامَ وعظ، وإلا فالحسن صاحب باعٍ لا نظير له، وكان بمقدوره أن يزجر المتكلم ويعرِّض له بقوله تعالى (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ)، ويبكِّته بقول ربنا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)، لكن الأمر يقتضي العدول عن الوعظ، لأن الآخر رفع نفسه -ولو بغير حق- درجةً بقول "أنا أزهد منك"، وعليه فالدواء الوعظي لا نجاعة له في هذا الموقف.

يتعين إذن، الانتقال إلى وسيلة مغايرة، ولو على سبيل التنزُّل مثلما فعل خليل الله إبراهيم مع النمرود ساعة (قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، ومطلوب في البديل أن يكون واضحًا للعيان، لا يتطلب شواهد معنوية أو براهين بعيدة عن جمهور المتلقين، تفصل في الأمر بما لا يدع مجالًا للشك عندهم، وليس بالضرورة عند المدّعي، فإنه قد لا يسلِّم مع قوة البرهان ونصاعة الحجة.

ترك الحسن هذا الباب إلى ما هو أقرب، والعرب أهل بيان ولسان، والكثرة الكاثرة -يومها- لا يخفى عليهم لحن أو خطأ، الفصاحة والبلاغة فيهم كالبدر المنير، وفي أمثالهم "إِنْ يَبْغِ عَلَيْكَ قَوْمُكَ لاَ يَبْغِ عَلَيْكَ القَمَرُ"، وقد ضيَّق المدعي الخناق على نفسه، وزاحم أهل الفن في بضاعتهم دون أن يشعر، محتكمًا إلى قوانينهم كباحث عن حتفه بلسانه ويده.

تكلم ربيعة الرأي يوماً بكلام في العلم فأكثر، فكأن العُجب داخله، فالتفت إلى أعرابي وقال: ما تعدون البلاغة؟ قال: قلة الكلام وإيجاز الصواب؛ قال: فما تعدون العي؟ قال "ما كنت فيه منذ اليوم"

جاء صاحبنا -بسلامته- إلى الحسن في ملعبه، والحسن وإن كان معروفًا بزهده، فهو كذلك خطيبٌ مستبحر يَهضِب بالقول، ولن تكون المقارنة في صالح المدعي بحال، وصدق الأول "قَدْ أَنْصَفَ القَارَةَ مَنْ رَامَاهَا".

لفظ (واحدة) يغني عن قوله (كلمة واحدة)، إذ أفادت المعنى بما تقتضيه الفصاحة، والخروج عن مقتضاها يقدح في ادعاء المتكلم بالجملة، ويرجع قوله عليه ويُرمى بحجره. والكلمة في الضاد تُطلق على الكلمة وما فوقها، كما في قوله تعالى (كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)، بعد قوله عزّ من قائل (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)، وفي الألفية يقول شيخنا ابن مالك "وكلمةٌ بها كلام قد يؤم".

وفي السُّنة المطهّرة، يقول من أوتي جوامع الكلم لعمه أبي طالب "أَيْ عمِّ، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله"، والعرب تطرب للإيجاز وتعده ركيزة من ركائز البلاغة، ويرسّخ خلف الأحمر لذلك بقوله "البلاغة كلمةٌ تكشف عن البقية"، وقال غيره "البلاغة إجاعة اللفظ وإشباع المعنى".

ارتكازًا على هذا المِنهاج، كثَّف الحسن البصري القول وأوجزه، فجاء رده مفحمًا وبصورة لا تلتبس على جمهور المتلقين، فهم أهل لغة على مختلف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية؛ فهذا معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- يسأل صحّار بن عياش العبديّ الأعرابي: ما تعدون البلاغة فيكم؟ قال: الإيجاز، قال: وما الإيجاز؟ قال (أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطئ)؛ فقال معاوية: أو كذلك تقول يا صحار؟! قال: أقِلني يا أمير المؤمنين! (ألا تبطئ ولا تخطئ).

أخذ معاوية على صحار استعماله ما يزيد عن الحاجة، وتفطَّن العبدي للزلة البلاغية فاعتذر واستدرك على نفسه، وفي هذا الوسط لن يعدم الحسن معينًا على صاحب الدعوى العريضة، وكلما اتسعت ثقافة المرء تباعد عن الادعاء، وتفادى الجدل العقيم وتوسّل بالحجة الدامغة.

وفي سياق الإيجاز وأهميته، تكلم ربيعة الرأي يوما بكلام في العلم فأكثر، فكأن العُجب داخله، فالتفت إلى أعرابي وقال: ما تعدون البلاغة؟ قال: قلة الكلام وإيجاز الصواب؛ قال: فما تعدون العي؟ قال "ما كنت فيه منذ اليوم"؛ فكأنما ألقمه حجرًا.

ولعلك تسأل: وما انتفاعي بكلمةٍ قالها الحسن البصري؟ أو مأخذٍ أخذه معاوية على ابن عياش العبدي؟ أو الرد على ربيعة الرأي؟! أهي قصص تُساق لمتعة ذهنية باردة؟ والجواب أنك إن اعتقدت هذا فقد أبعدت النُّجعة، وإنما بمثل هذا تتعزز لدى المرء ملَكة البديهة وخطْرة الارتجال، ولا بأس أن يتشبع المرء بهذه المواقف، وأن يستعين بها ما أمكنته الفرصة حتى يشحذ همته ويقوي بديهته.

قبل أن يشتد عود الرجل في عالم القريض فإنه يُقرزم، لا خلاف على ذلك في المنظوم والمنثور، ومع الممارسة يتحسن أداؤه وتقوى على الشعر قريحته، وقد بدأ فولتير بتقليد فيرجيل، وللتدرب على جودة الوصف ألزم سومرست موم نفسه بتقليد جوناثان سويفت، ولا بأس أن نتعلم من مواقف أهل البديهة على طريقة (فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم/ إن التشبُّه بالرجال فلاح)، وللحديث صلة.