موظف إدلبي يقبض راتبه من حماه

موظف إدلبي يقبض راتبه من حماه

14 سبتمبر 2021
+ الخط -

(الجزء الأول: حكاية الحاجز الجديد)

اتصل بي شخص، عبر الواتس أب، وعرفني على نفسه قائلاً إن اسمه "عبدو" ويكنى "أبو أحمد"، ويعيش في الداخل السوري. وقال إنه يتابع مقالاتي التي أتناول فيها التوافه من جماعة النظام والمعارضة، ويحبها كثيراً.. وأضاف أنه، الآن، اكتشف عندي ميزتين رائعتين، الأولى أنني جاوبت على رقم لا أعرفه، والثانية أنني رحبتُ به وأبديت استعدادي للتحاور معه، على الرغم من أنني لا أعرفه.

أردت أن أريحه من التحفظات التي يتسلح بها كلُّ من يتصل بكاتب مشهور، (باعتبار أني كاتب مشهور- بلا آفية)، فقلت له: طمنّي أولاً، تلفونك مشحون؟ وعندك إنترنت شغال؟

قال: نعم. نحن المقيمون في سورية العظيمة نضع تلفوناتنا على الشحن في أول الليل، ووقتها تكون الكهرباء مقطوعة، وعندما يسري التيار في الأسلاك، بعد أن ننام ونشخر، يتلقفه التلفون، وعندما نستيقظ، تكون الكهرباء مقطوعة ويكون التلفون مشحوناً بالكامل.. على كل حال، إذا نفد شحن تلفوني خلال الحديث معك، يا أستاذ أبو مرداس، مو خسارة، لأنك تستاهل.

قلت له: أنا مثلك، يا أخي أبو أحمد، أعتبر الشخص الذي لا يرد على تلفونه إنساناً سيئاً، وقد تزاعلتُ، خلال حياتي، مع عدد من الأشخاص لسبب وحيد، هو عدم ردهم على اتصال مني. على كل حال، ما علينا.. الآن سأحكي لك، إذا سمحت لي، حكاية نتداولها نحن أبناء عائلة (بدلة) فيما بيننا.

قال: تفضل.

قال: ولكن الحكاية طويلة، قد نضطر للتوقف إذا نفد شحن الموبايل، أو إذا انشغل أحدُنا بعمل طارئ

قلت: من زمان، يا أبو أحمد، قبل حوالي سبعين سنة، وقعت مشاجرة جماعية في بلدتي معرتمصرين، كانت عائلة بدلة طرفاً فيها، وعلى إثرها جرى توقيف عدد من أعمامي في مخفر الدرك. ولدى تسجيل أسمائهم في دفتر الضبوط، اتضح للمحقق أن نسبة أربعين بالمئة منهم، تقريباً، يحملون اسم (محمد بدلة، أبو عبدو)، ونسبة الأربعين بالمئة الأخرى يحملون اسم (عبدو بدلة، أبو محمد)!.. وأما نسبة 20% الباقون فأسماؤهم مشتقة من محمد وعبدو ومصطفى، يعني، مثلاً: أحمد، محمود، حمدو، عبود، عبيّد، مصطفى، صفُّو.. إلى آخره.. وعلى ما رُوي لنا فإن المحقق سألهم إن كانوا يحملون هذه الأسماء المشتقة من اسم الرسول بسبب التَدَيُّـن، فكان الجواب بالنفي القاطع، وأوضحوا له أنهم لا يعرفون السبب، فكل إنسان مُسَمَّى على اسم جَدِّه.

ضحك أبو أحمد وقال: قصتك حلوة، ولكن لماذا ترويها لي الآن؟ لعلك تقصدني، لأنني...

قلت له: نعم. أقصدك. إن الأسماء وجدت، أساساً، للتمييز بين البشر، وأما نحن، أهلَ هذه البلاد، فقد وُجدت أسماؤنا لتزيدنا تشابهاً وابتعاداً عن التعيين.. وهأنتذا تعرّف على نفسك باسم (عبدو، أبو أحمد).. فتزيدني، بذلك، جهلاً بحضرتك.

اعتذرَ الرجل عن هذا الأمر، وقدم لي اسمه الصريح، وقال: المشكلة ليست في كوننا نتوارث أسماء آبائنا وجدودنا مثلما تفضلتَ في حكاية أعمامك، فهناك مشكلة أكبر وأهم بكثير، وهي أننا (سوريون).

توقفتُ لحظة، أو كما يقولون (دقرتُ) إذ صدمني جوابه. وقلت له: ممكن تفسر لي قصدك؟

قال: بكل سرور. من مدة قرأت لك مقالة منشورة على أحد المواقع الإلكترونية، تستغرب فيها زعمَ بعض الناس بأن سورية دولة عظيمة، وتضرب مثلاً بأغنية للفنان عبد الرحمن آل رشي عنوانها "أنا آه سوري يا نيالي".. مقالتك، للأمانة، حلوة، وأنا أوافقك الرأي حول كل ما ورد فيها، وأزيدُ عليك بأن كل شيء، في هذه الأيام، ينقلب ضد السوري، فيربكه ويؤذيه، حتى اسمه، ومكان ولادته، ودينه، وقوميته، ومذهبه. هل تحب أن أحكي لك حكاية جرت معي؟

قلت: يا ليت.

قال: ولكن الحكاية طويلة، قد نضطر للتوقف إذا نفد شحن الموبايل، أو إذا انشغل أحدُنا بعمل طارئ.

قلت له: اتفقنا.

قال: يا سيدي، قبل أن يسيطر الرجل الغريب المتنكر باسم "أبو محمد الجولاني"، وعموم عناصر تنظيم القاعدة، على محافظتنا إدلب، كان هناك معابر بيننا وبين أهلنا المرغمين على العيش في المناطق الخاضعة لسلطة بيت الأسد. وكان الموظفون والمتقاعدون الذين يعيشون في محافظة إدلب يذهبون إلى مدينة حماه، يقبضون رواتبهم من مديرية التربية بحماه، ويعودون إدلب. صحيح أن الراتب صغير إلى درجة أنك تستطيع أن تصفه بعبارة "علاك مصدي"، إلا أنه أحسن من لا شيء.

قلت: غريبة. هل كنتم تسافرون إلى حماه وتعودون بذلك الراتب الذي تصفه بأنه علاك مصدي؟

ضحك أبو أحمد وقال: طول بالك يا أستاذ. جاييك بالحكي. يا سيدي، قبل سنة 2011، كان مَنْ يمتلك سيارة خاصة يستطيع أن يذهب إلى حماه ويعود إلى إدلب، أربع أو خمس مرات في اليوم، لأن المسافة بين المدينتين كلها على بعضها 90 كيلومتر، ولكن، بعد الثورة، وبسبب حقارة نظام الأسد وسفالة نظام المحتل الجولاني، صارت السفرة بين إدلب وحماه تستغرق 12 ساعة في الحد الأدنى، لأنك تمر في الذهاب والإياب على عدة أنواع من الحواجز، وكل حاجز تقف فيه على الدور للتفتيش، ووقتها يشلحك عناصر الحاجز بعض النقود، ويسمحون لك بالمتابعة. ولذلك كنا نذهب مرة واحدة كل ستة أشهر، نقبض الرواتب المتراكمة ونعود.

قلت: أنا عندي اعتراض. أنت تحكي عن عدة أنواع من الحواجز، بينما الأصح أنهما نوعان، حواجز نظام الأسد، وحواجز تنظيم القاعدة (الجولاني)..

قال: يا أستاذ خطيب، مع احترامي لك، أنت خرجت من سورية منذ بدايات الثورة، ولا تعرف شيئاً مما يجري على الأرض. يا سيدي حواجز النظام نفسها أنواع: حواجز جيش، وحواجز مخابرات (وهذه أيضاً منوعة)، وحواجز شبيحة.. وهناك حاجز صنعه رجل مؤيد للنظام من تلقاء نفسه، وصار يهين الركاب الذاهبين من إدلب إلى حماه، ويتهمهم بالعمالة لتركيا، ويرحب بالقادمين من حماه، ويشفق عليهم لأنهم مضطرون للذهاب إلى إدلب، ويقول لهم: الله يعينكم على شعب إدلب الإرهابي.

وينصحهم ألا يطيلوا المكوث هناك لئلا يتعلموا الإرهاب منا نحن أهل إدلب. وبعد ذلك يأخذ من كل شخص مبلغاً من المال وترك السيارة تعبر.

قلت: والله هذه شغلة طريفة. وهل علمت مخابرات سلطة الأسد بهذا الوضع الشاذ؟

ضحك أبو أحمد وقال: لماذا تعتبره وضعاً شاذاً؟ بالعكس إنه طبيعي جداً. وبحسب ما سمعت، بأن صاحب الحاجز تعرض في البداية لمشكلة، وتم استدعاؤه إلى أحد فروع الأمن بحماه، وصارت معه قصة طريفة.

(استراحة قصيرة ونتابع)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...