ستُبدي لك الأيامُ (1)

ستُبدي لك الأيامُ (1)

13 سبتمبر 2021
+ الخط -

تمضي الأيام متشابهة في كرّها وفرّها، نقابل وجوهًا ثم تتباعد الدروب، وقد تجمعنا الصدف -ويا عيني ع الصدف يا عيني- فتحملنا على جناحها، ونطوف في فضاءاتها، نتنشّق عبير الأيام الخوالي وندوزن على أوتار الأماني العِذاب.

قبل أيام، طرق أحدهم -وله في قلبي جلالٌ لا مثيل له- بابي، والحق أقول (أنا من سنين لم أره/ لكنَّ شيئًا ظل في قلبي زمانًا يذكره)، وتشعّب الحديث وامتدت حباله، تصدّع قلبي لآلام صاحبي، وانتفضت انتفاضة عصفور بلّله المطر، وابتسم صاحبي قبل أن يودعني لأجل مسمى، وقد أعادني لُقياه إلى مراتع الصبا وأحلام الطفولة.

تسربلت بعباءة قيل إنها كانت لصديقي الجاهلي طرفة بن العبد البكري الجاهلي، والمتوفى عن 26 ربيعًا، مضيت تحت جناح الليل أجتر الذكريات، وكان بديهيًّا أن أطوف في رحاب البكري، لا سيّما معلقته -من بحر الطويل- ومطلعها (لخولةَ أطلالٌ ببرقةِ ثمهدِ/ تلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهرِ اليدِ)، لم يكن وحده حينها، كانت خولة تملك عليه شغاف قلبه.

وفي رحلته، ربما كان معه بعض أصحابه فخاطبهم (وقوفًا بها صحبي عليّ مَطيِّهم/ يقولون لا تَهْلَك أسًى وتجلَّدِ)، وربما كان وحده يتمنى ويتخيّل أنه يشكو لأصفيائه هجر أحبائه، أو أتعبه كتمان هوى فباح بشيء من سره، ولا بدّ للمصدور أن ينفث. كاد يُطلق العنان للسانه، غير أنه وجد لرحيق حبّه عبيرًا أقوى وأطول أمدًا إن كتمه بين جوانحه، وراقه أن يتعذب في هواها دون أن يبوح، آثر أن يغلي في الدواخل ألف بركان وهو يتصنّع الهدوء ولا جراح بريطاني!

أمسك عصًا وخطّ في الأرض رسمًا لم أتبين مغزاه، فسألته كيف اهتديت إلى البيتين البديعين يا طرفة؟ قال: التجارب تصنع العجائب، لم أتصوّر يومها أن هذه القصيدة ستخلد اسمي في العالمين

قلّبتُ الأمور ظهرًا لبطن، نشوة لقاء صاحبي أثارت فضولي تجاه البكري، ماذا فعل الله بخولة؟ وماذا فعل الله بك يا طَرَفَة حين تُهت في بنيات الطريق؟ ليتك قبِلت نصيحة خالك المتلمّس، ولم تركب دماغك يا صديقي وتلقي بنفسك إلى التهلكة، لكن -وقد سبق السيف العذل- فما نفع لو وليت ولو أن؟!

سرت في أوصالي رِعدةٌ وأنا أسمع من اللامكان من يقول (ستُبدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلًا/ ويأتيك بالأخبارِ من لم تزوّد/ ويأتيك بالأخبارِ من لم تبع له/ بتاتًا ولم تضرب له وقتَ موعد)، وبعد توثُّقٍ من الصوت وصاحبه، إذا هو ابن البكري، وقد نفض عن هامته غبار القرون، أخرجته ذكرى خولة من سباته الطويل.

قلت: يا صديقي البكري! قال: اسمي طرفة وافتح فاك في الأحرف الأولى (طَرَفَة)، اسمي أحبّ إلي مما سواه، ثم أطرق قليلًا ورفع رأسه مستدركًا، هذا طبعًا في المنزلة الثانية بعد خولة، ثم تنهّد تنهيدةً طويلة كادت تعيده قبره، وهو يهزّ رأسه وقد ارتخت عيناه: سقى الله أرضك يا خولة! قلت له: هل سألت عنها؟ هل بحثت عن حسابها في فيسبوك؟ ربما هي من عِلية القوم فتفضّل تويتر وإنستغرام وسناب شات؟

أمسك عصًا وخطّ في الأرض رسمًا لم أتبين مغزاه، فسألته كيف اهتديت إلى البيتين البديعين يا طرفة؟ قال: التجارب تصنع العجائب، لم أتصوّر يومها أن هذه القصيدة ستخلد اسمي في العالمين، وأنها ستضعني في مصاف شعراء العربية، وصمت هنيهة قبل أن يسألني: ماذا قيل في هذين البيتين من بعدي؟ قبل أن أنطق ببنت شفة، ابتدرني طرفة بقوله: أعلم أن الأيام ستُطلعني على ما أغفل عنه، وسينقلُ إليَّ وإليك الأخبار من لم نزوّده بها، ومع ذلك فقد خلِق الإنسان عجولا، ولا بأس أن تهديني لما ضللت عنه.

قلت: أبشرك! سار بيتك مسير المثل السائر، حتى قيل إن نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، تمثّل به؛ فقاطعني متلهِّفًا مستقصيًّا عن تفاصيل هذه المكرُمة، ونقلت له ما أورده البغوي في تفسيره، والنحاس في معاني القرآن للنحاس (في تفسيرهما لسورة يس)، وكذلك السمعاني في تفسيره، ونقلت له ما أورده السيوطي في شواهد المغني، وكلها تتعلق بعجز بيته السيّار (ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد).

وقال طرفة: دع عنك الجملة وأتحفني بالتفاصيل! قلت: نقل لنا الرواة عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها سُئِلت: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثّل بالشعر؟ قالت لا، إلا قول طرفة (ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد)، وأخبرته أن البغوي والنحاس والسمعاني ساقوا الكلام بتمامه، في حين اقتضبه السيوطي؛ فردّ مندفعًا: اعطني خبر البغوي بحذافيره.

ونزولًا على رغبته فعلت، إذ عند البغوي "وقال معمر عن قتادة: بلغني أن عائشة سئلت: هل كان النبي يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان الشعر أبغضَ الحديث إليه، ولم يتمثّل بشيءٍ من الشعر إلا ببيت أخي بَني قيسٍ طَرَفَة (ستُبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا/ ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد)؛ فجعل يقول (ويأتيك من لم تزود بالأخبار)؛ فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هكذا يا رسول الله؛ فقال "إني لست بشاعرٍ ولا ينبغي لي".

استبد بالجاهلي الطرب، وقال ثمة جماعةٌ يقال لهم أهل البيان والبديع؛ فهل تعرضوا لهذا البيت بشيء من الدراسة والتحليل؟ أدري أنهم قتلوا معلقتي بحثًا وفحصًا ودرسًا، لكن يعنيني هذا البيت بالدرجة الأولى، إذ -وسأكشف لك سرًا وخذه خبرًا عاجلًا إن شئت- قلتُه وقد ترحلت خولة عن الديار، وكنت عائدًا من الدوام تعبًا وغلبني النوم، ولعلني نمت طويلًا مثلما فعل كاظم الساهر ساعة قال (وصحيت من نومتي وأنت في بلد ثانٍ).