في ضيافة الفرزدق (2)

في ضيافة الفرزدق (2)

26 يوليو 2021
+ الخط -

يقضي الاتفاق بيننا وبين الفرزدق أن نسأله سؤالًا في اللقاء ولا نزيد، وألا نقاطعه خلال جوابه، وتعلّل الرجل بأن ذاكرته قد اهترأت وقدراته الذهنية تراجعت، ويخشى -إن قُوطِع أو روجِع- أن يفلت زمام الأمر من يده فيرمينا بهجائه المرير أو يمتنع عن الكلام، أو على طريقة صافيناز كاظم يقول لنا بالفم المليان "الغي رحلتي"! وإذ إن شهادته على العصر مهمة، ارتأينا أن ننزل عند رغبته، وأن نترك له العنان ليطوِّف بنا في فضاءات عدة.

واليوم، سينتظم سلك حديثه في الفخر، ولهذا اللون الشعري في ديوانه رصيد كبير، ومع أن ذلك يفصلنا جزئيًا عن الصراع الفرزدقي/الجريري، إلا أنه -في الوقت نفسه- يكسر حدة الطبع ويهدئ من الروع، وسنعود إلى ما انقطعنا عنه في حينه، والآن نترك لأبي فراس المجال يتصرف في القول حيث شاء.

يتنحنح عمنا الفرزدق ويتعوّذ بالله من إبليسه ثم ينطلق: الفخر لونٌ شعريٌ له جلال خاص، لا أقول إنه من أردية الأرستقراطيين، ولا إنه حصري لأبناء البيوتات من أمثالي، وعندي ما يؤهلني للفخر على الناس بجدارة، ويعلم ذلك ابن المراغة -يغمز في قناة صاحبه، جرير- وإن سألتني عن الأسباب فسأسرد -على عجالة- بعضها، ولن أوغل في نسبي أو أدعي ما ليس لي، يكفيني شرفًا أنه ليس بيني وبين معد بن عدنان أبٌ مجهول، وللإيجاز سأكلمك عن أبي، والولد بعضٌ من أبيه، ومن شابه أباه فما ظلم، وسأذكر لك طرفًا من خبر جدي الأول.

وفي غيري يقول أبو العلاء (تماجَد القومُ والألبابُ مُخبرةٌ/ أنْ ليس في هذه الأجيالِ أمجادُ)، ولعل قوله ينطبق على ابن المراغة، أما أنا فلا، أليس من حقي أن أترنم بمفاخر غالب بن صعصعة؟ أليس لي أن أتيه بمآثر صعصعة بن مجاشع بن دارم؟ وإليك الجواب.

قبل مدة، أصيب أهل الكوفة بمجاعة فخرج الناس إلى البوادي، وكان أبي رئيس قومه، وسحيم بن وثيل الرياحي إمام أهله، واجتمع الطرفان بأطراف بادية السماوة؛ فعقر أبي لقومه ناقة وأهدى منها لقبيلته تميم، ثم أرسل إلى سحيم جفنة فكفأها سحيم وضرب الذي أتاه بها مظهرًا أنه في غير حاجةٍ إليها ونحر ناقة.

في اليوم التالي، نحر أبي -سقى الله تربته- ناقتين وجاراه سحيم، فلما كان اليوم الثالث نحر ثلاثًا وصانعه صاحبه، وفي اليوم التالي نحر أبي مئة ناقة، ولم يجد سحيم في طاقته أن يفعل ذلك فأمسك ولم يعقر شيئًا، وعند الرهان تُعرف السوابق.

التفت إليَّ سليمان وقال: كيف ترى؟ قلتُ: هو أشعرُ أهل جِلدته! فأمر له الخليفة بصلة ولم يأمر لي بشيء، وإنما قال "ألحقوه بنار أبيه"

انتهت المجاعة وعاد الناس إلى الكوفة، لكنهم لم ينسوا نكوص سحيم وعابوه على عدم مجاراته أبي في كرمه وفضله؛ فعقر 300 ناقة واعتذر أن إبله كانت غائبة حين ذلك، وقد وقعت هذه الحادثة في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن هل تساوى الرجلان؟ لقد أفتى الإمام علي بحُرمة الأكل من نُوق سحيم، وفي مسوغات التحريم قال إنها ذُبحت لغير مأكلة، إذ كان المقصود من ذبحها المفاخرة على منافسة والمباهاة ولم تُذبح لوجه الله تعالى؛ فألقيت لحومها في كناسة الكوفة وأكلتها الكلاب والعقبان والرخم!

وذكرت لك -في اللقاء الماضي- وصية أسد الله الغالب لأبي، وهي أن يحفظني القرآن، لكن قبل الوصية جرى بينهما كلام، قال فيه أبي: يا أمير المؤمنين! أنا غالب بن صعصعة بن ناجية المجاشعي! قال: ذو الإبل الكثيرة؟ قال نعم! فسأله: وأين ذهبت؟ فأجاب أبي: أذهبتها النوائب وزعزعتها الحقوق، قال علي: ذلك خير سبلها. أبٌ كهذا يُفتخر به ويُتاه على ابن المراغة أم لا؟ بل يفتخر به على الخلفاء والأمراء كابرًا عن كابر، وقد أحسن لي فكنت مولعًا ببره، وأجرت من استجار حتى بقبره في كاظمة، لا أقول ذلك ضربًا من المبالغة، وسأسوق لك مثالين فحسب.

القصة الأولى نقلها إليكم محمد بن يزيد المبرِّد في (الكامل)، ومفادها أن الحجاج بن يوسف الثقفي قد ولى تميم بن زيد القيني بلاد السند، وأراد القيني التعبئة العامة لقواته فدخل البصرة واستخرج منها عددًا عديدًا من الشباب، لكن عجوزًا جاءت إليَّ واستجارت بقبر أبي، وأتت منه بحُصيّات وضعته بين يديّ؛ فقلت لها: ما شأنك؟ قالت إن تميم بن زيد خرج بابن لي معه، ولا قرة لعيني ولا كاسب غيره، واسمه خنيس.

كتبت إلى الوالي: (تميم بن زيد لا تكونن حاجتي/ بظهرٍ فلا يعيا عليَّ جوابها/ فهَبْ لي خنيسًا واحتسب فيه مِنةً/ لعبرةِ أمٍّ ما يسوغ شرابها/ أتتني فعاذت -يا تميمُ- بغالبٍ/ وبالحفرة الساقي عليها ترابها/ وقد علم الأقوامُ أنك ماجدٌ/ وليثٌ إذا ما الحربُ شبَّ شِهابُها)؛ فلما ورد الكتابُ على ابن زيد تشكَّك في الاسم لأن الكتابة لم تكن معجمة حينها ولا منقوطة؛ فأخرج الوالي مشكورًا من عسكره ستة مجندين ما بين حبيش وخنيس، ووجَّه بهم جميعًا إليَّ إكرامًا لشفاعتي واعترافًا بقدر أبي.

هذا أبي، وحقيق بمثلي أن يفخر به، ويزداد الأمر قيمة وجلاء إذا ما قُورن بعطية بن الخطفي، هذا البروليتاري المفلس، وقد عري من حميد الخصال كما تعرى الأشجار في الخريف، وإن حياته من مبدئها إلى منتهاها لخريف، ولا أدل على ذلك من أنه كان يمُصُّ اللبن مباشرةً من ضَرع الشاة، لئلا يُسمع الشَّخب ويطلب منه بعضه! للأمانة لم أرَ هذه الواقعة بنفسي، ولعلها -كما يشاع- من تخرُّصات الرواة، وأن ابنه وضعها على ألسنتهم، لكنه انتسب إلى عشيرتي وتباعد عن عشيرته فقلت فيه قولًا فتّت كبده وأدمى عقبيه.

أذكر أني قلت فيه (إن استراقك يا جريرُ قصائدي/ مثل ادعاء سوى أبيك تنقّلُ/ وابن المراغة يدعي من دارمٍ/ والعبدُ غير أبيه قد يتنحّل/ ليس الكرامُ بناحليكَ أباهُم/ حتى تُرد إلى عطيّة تُعتل/ وزعمت أنك قد رضيتَ بما بنى/ فاصبر فما لك عن أبيك محوّل/ ولئن رغبت سوى أبيك لترجعن/ عبدًا إليه كأنَّ أنفك دُمّل).

أما القصة الثانية، فموجزها أني دخلتُ يومًا على سليمان بن عبد الملك بن مروان، وكان معي نصيب بن رباح -مولى عبد العزيز بن مروان- الشاعر؛ فقال لي سليمان: أنشدنا! فأنشدته (وركبٌ كأنَّ الريح تطلبُ عندهم لها/ تِرةً من جذبِها بالعصائب/ سَروا يخبِطون الليلَ وهي تلُفُّهُم/ على شُعَبِ الأكوارِ من كلِّ جانب/ إذا ما رأوا نارًا يقولون ليتها/ -وقد خَصِرَت أيديهِمُ- نارُ غالب)؛ فاغتاظ سليمان وأطرق مليًّا، وتفاديًا للموقف قال نصيب: ألا أنشدك يا أمير المؤمنين؟! فأجابه بالإيماء أن هات.

وأنشده نصيب (أقولُ لركبٍ صادرين لقيتُهم/ قِفا ذاتِ أوشالٍ ومولاك قائمُ/ قفوا أخبروني عن سليمان إنني/ لمعروفِهِ من أهل ودَّانَ طالبُ/ فعاجوا فأثنوا بالذي أنتَ أهلُهُ/ ولو سكتوا أثنت عليك الحقائبُ/ هو البدرُ والنَّاسُ الكواكبُ حولَهُ/ ولا تُشبِهُ البدرَ المضيءَ الكواكبُ).

فالتفت إليَّ سليمان وقال: كيف ترى؟ قلتُ: هو أشعرُ أهل جِلدته! فأمر له الخليفة بصلة ولم يأمر لي بشيء، وإنما قال "ألحقوه بنار أبيه"؛ فخرجت أتميَّز من الغيظ وأنشدتُ (وخيرُ الشِّعْرِ أكرمه رجالًا/ وشرُّ الشِّعْرِ ما قالَ العبيدُ).

سأحدثك في المرة المقبلة عن اتهامي بالتمييز العنصري رغم تعاطفي مع لويس هاميلتون وماركوس راشفورد وبوغبا، وعن موقفي من حركة (مي تو) وما تركته في نفسي من غصة، وحطت من أسهمي عند عمر بن عبد العزيز، وكيف استثمر جرير هذه الحركة ووظفها في سجالنا الطويل.