هل لغتنا في محنة؟

هل لغتنا في محنة؟

24 يونيو 2021
+ الخط -

منذ حوالي مائتي عام قام "الكونغرس" الأميركي بالتصويت حول اللغة الرسمية لأميركا، وكان التصويت قائماً على الاختيار بين اللغة الإنكليزية واللغة الألمانية، وقد فازت اللغة الإنكليزية على اللغة الألمانية بفارق صوت واحد، ومن يومها واللغة الإنكليزية هي اللغة السائدة في أميركا. ولولا هذا الصوت الواحد الذي رجّح كفّة اللغة الإنكليزية لكانت اللغة الألمانية الآن هي اللغة السائدة في جميع أنحاء أميركا.

تذكرت هذه الحادثة التاريخية وأنا أراجع ما تتعرض له اللغة العربية في بلادنا العربية بصورة عامة من عمليات تشويه تكاد تقضي عليها وتجعل منها لغة دخيلة لا علاقة لها بالحياة.

اليوم نلحظ، كما يلحظ غيرنا وفي مختلف بلداننا العربية المختلفة أن اللغة العربية تتراجع لتحل محلها لغة أخرى، حتى لو استخدمت هذه اللغة الأخرى حروفاً عربية، فأغلب أسماء المحلات والشركات والمقاهي والفنادق، لا يوجد بينها اسم عربي واحد، الكل يبحث عن تسمية أجنبية، ويعتبر التسمية العربية مرفوضة منذ البداية، لأنها تقلل من شأن صاحبها، وتسيء إليه في سوق العمل والتجارة والبيع والشراء، وتحط من منزلته أمام الناس.

الكل يبحث عن أسماء أجنبية، والكل يرفض اللغة العربية، والكل يعتقد أنَّ الحضارة مرتبطة بالأسماء الأجنبية، وأنَّ التخلّف مرتبط باللغة العربية، ويكفي أن نشير هنا إلى أنَّ أغلب الفنادق التي تم إنشاؤها في السنوات الثلاثين الأخيرة، وهي كثيرة جداً، يندر أن تجد بينها فندق واحد يحمل اسماً عربياً.

الغريب في هذه الظاهرة أنها لم تعد تصدم الذوق العام، ولم يعد فيها أي استفزاز للمواطنين، بل إنَّ الجميع يتقبّلون الأمر ببساطة وكأنه أمر طبيعي لا خطأ فيه ولا ضرر منه.

والمعنى الوحيد لهذه الظاهرة، ولعدم ضيقنا بها، هو أن إحساسنا بقيمة اللغة القومية قد انتهى، وأصبح صفحة منطوية من صفحات التاريخ القديم.

كان المستشرقون يطلبون منّا التخلي عن اللغة العربية، وإحلال اللهجة العامّية مكانها، ليصبح هناك ما يمكن تسميته باسم اللغة العامّية الخاصة بنا والبعيدة عن اللغة العربية تماماً

وقد صاحب هذه الظاهرة العامة الرئيسية ظواهر أخرى كثيرة، مثل انتشار الخطأ اللغوي في الصحف والمجلات والكتب المطبوعة، وانتشار هذا الخطأ على ألسنة المذيعين والمذيعات في أجهزة الإعلام المختلفة. وفي نفس الوقت نلاحظ كثرة استخدام الألفاظ الأجنبية على ألسنة المتحدّثين الذين يحاولون الظهور بمظهر حضاري لائق بهم، لأن الحديث باللغة العربية الخالصة هو عند هؤلاء أصبح دليلاً من أدلة الجهل وعدم المعرفة بثقافة العصر.

وهذه الظواهر كلها دليل فادح على عدم الثقة بالنفس، والخضوع لسيطرة الشخصية الأجنبية التي أصبحت تغزو عقولنا ومشاعرنا وحياتنا اليومية. ولا يوجد شعب في العالم يقبل مثل هذا الخضوع اللغوي للآخرين باختياره وإرادته.

الإنكليز يقدسون لغتهم ويبذلون جهوداً غير عادية لنشرها في أنحاء العالم كله، ولا يبخلون بالأموال الكثيرة في سبيل دعم هذه اللغة وتمكينها من السيادة والانتشار في العالم كله. وفي أي أرض تتيح للإنكليز أن يفتحوا مركزاً بريطانياً لتعليم اللغة الإنكليزية فإنهم لا يترددون في ذلك، بل يسارعون إليه، ويدفعون المكافآت والجوائز التشجيعية للطلاب الأجانب حتى يتعلموا اللغة الإنكليزية ويتقنوها أشد الإتقان.

والفرنسيون يفعلون نفس الشيء ويبذلون الجهد والمال لنشر لغتهم والوقوف كمنافسين أشدّاء للإنكليز في الصراع اللغوي العالمي الكبير.

كل شعوب العالم تفعل ذلك، ولا تكتفي بالاهتمام بلغتها في الداخل، بل تعمل على التبشير بهذه اللغة في كل الأوطان الأخرى وبين جميع الأجناس البشرية.

وهذه علامة من علامات الصحّة الحضارية واحترام الذات والحرص على قوّة الأمّة والعمل الدائم على أن تكون هذه الأمّة مؤثرة على الآخرين. فما الذي أصابنا نحن حتى أصبحنا نتنازل عن لغتنا باختيارنا، ونوجّه إليها الطعنات كل يوم وكأنها ليست لغتنا القومية، بل هي لغة أعداء لنا لا يستحقون منا إلّا الكراهية والرفض؟

لماذا أصبحنا نستهين باللغة العربية هذه الاستهانة الواسعة الشاملة دون أن تجد هذه الاستهانة رادعاً من القانون أو من الرأي العام؟

إنّها ظاهرة تدلّ على أن المرض قد استولى على جسم الأمّة وعقلها ونفسيتها، وأنَّ هذا المرض، لقوّة انتشاره وسيطرته على الجسم، لم يَعُد أحد يشعر به أو يخشى منه. وأفتك الأمراض بالأجساد هو المرض الخفي الذي ينتشر بسرعة ولا يجد مقاومة تقف في وجهه وتقضي عليه.

لقد تعرّضت اللغة العربية من قبل لحروب عنيفة ولكن هذه الحروب كانت دائماً وافدة عليها من الخارج، أي أنَّ الذين شنّوا هذه الحروب كانوا دائماً من الأعداء وأصحاب المصلحة من الأجانب.

كان المستشرقون يطلبون منّا التخلي عن اللغة العربية، وإحلال اللهجة العامّية مكانها، ليصبح هناك ما يمكن تسميته باسم اللغة العامّية الخاصة بنا والبعيدة عن اللغة العربية تماماً.

ولم يكن هؤلاء المستشرقون يعلمون أنهم بعد مرور ما يقرب من قرن على دعوتهم إلى العامية وإحلالها محل اللغة العربية، لم يكن هؤلاء المستشرقون يعلمون أنه سوف يظهر جيل في بلادنا يسبقهم في دعوتهم ويرفض اللغة العربية واللهجة العامّية معاً، ويحرص كل الحرص على أن تكون اللغة التي يستخدمها هي الإنكليزية أو الفرنسية.. وأين؟

إنّ هذا الجيل يستخدم هذه اللغات الأجنبية ليس في لندن أو باريس، وإنما في القاهرة وفي دبي ودمشق .. في بغداد وعمان وتونس وطرابلس الغرب والجزائر والرباط والخرطوم، وفي سائر المدن والقرى، وبذلك تجاوز هذا الجيل كل أحلام المستشرقين الذين تبنوا الدعوة إلى الابتعاد عن اللغة العربية واستخدام العامّية بدلاً منها.

وهكذا انتقلت الحرب على اللغة العربية من المستشرقين الأجانب، إلى أهل البلاد أنفسهم، فهم الذين يقومون الآن بالجهد الأكبر في سبيل تحطيم اللغة العربية، وجعل الواجهة اللغوية للبلاد واجهة أجنبية خالصة.

وأخطر ما في هذه الظاهرة الجديدة أننا لا نشعر بالقلق، ولا نحس بأي خطر علينا في هذا المجال، فلا أحد يتحرّك ولا قانون يصدر، وإذا كتب كاتب أو تحدّث إنسان حول هذه الظاهرة، نظر إليه الناس على أنه واحد من الذين يشغلون أنفسهم بالأمور التي لا أهمية لها ولا قيمة.

لماذا وصل إحساسنا بهذه الظاهرة إلى هذا الحد من التبلّد؟ ولماذا سكتت المؤسسات الرسمية والشعبية على هذه الظاهرة واستسلمت لها؟ وكيف يتحول الشارع العربي في سنوات قليلة إلى شارع أجنبي في كل ما يستخدمه من لافتات وأسماء؟ وكيف أصبحت اللغة العربية مهزومة على يد أبنائها إلى هذا الحد أمام كل اللغات الأجنبية الأخرى؟

وما أفدح ما نعاني منه دون أن ندري.. لقد مات إحساسنا بلغتنا، ولم نعد نشعر بأن كرامة اللغة من كرامة الشعوب، وأن شعبا لا يهتم بلغته هو في حقيقته، شعب لا يهتم بمستقبله ولا بمصالحه الحقيقية الأصيلة.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.