أمّنا الصغيرة

أمّنا الصغيرة

10 مايو 2021
+ الخط -

قسوة المناظر المقزّزة التي عرضتها الشاشة الفضية كانت قد استوقفتني مطولاً وأنا أتابع، وبرغبة شديدة، محتوى أحد الأفلام التي تعرضها "نتفليكس"، التي تقوم بإنتاج الأفلام والبرامج التلفزيونية، والذي يستحق المشاهدة لما يتضمّنه من صور مؤسية تفجّر اليأس، وخاصة صورة معلمة المدرسة التي كانت تحاول العمل على إنقاذ إحدى التلميذات الصغيرات التي تقيم مع والدها في إحدى القرى النائية التي يعيش أهلها في فقر مدقع، في غرفة سكنية متواضعة، وهو الذي يقوم بصيد الأسماك ويبيعها بأسعار زهيدة، وبالكاد تسدّ الرمق!

كانت الطفلة ابنة الثانية عشرة بمثابة "الأم الصغيرة" بالنسبة لوالدها، حيث كانت تدير شؤون البيت وتقوم على غسل الملابس، وتنظيف البيت وترتيبه، وتحضير الطعام، وكان يفضل أن يناديها بـ"أمّنا الصغيرة" بصورة دائمة، فكانت تساعده في الصيد من خلال استخدامهما زورقا بسيطا لهذه الغاية، وكانت رغبة الطفلة الصغيرة الالتحاق بالمدرسة والنهل من دروسها، إلّا أن الأب الشديد القسوة كان يمانع في ذلك، لا سيما أنّ زوجته المتوفية، والدة الطفلة، كانت متعلمة ولم تكن ترضى بالواقع المرير الذي كانوا يعيشونه، بل كانت تنتقد باستمرار الكثير من تصرفاته الغريبة المخجلة التي يقوم بها، وكانت تُوجهه بصورة قاسية، وهذا ما دفع به إلى أن يأخذ منها موقفاً متشدداً ويكره التعليم الذي كان له دوره الكبير في الحفاظ على المرأة  وكينونتها، وتعريفها على الكثير من المفاهيم، وما لها وما عليها من واجبات لم تكن تدركها قبل دخولها المدرسة، وهنا تكمن عقدة الأب الذي لم يكن يريد لابنته الصغيرة أن تكرّر نفس المشكلة التي كانت ترغب بشدّة في دخول المدرسة التي تحبّها بشغفٍ غريب، في الوقت الذي أظهر فيه الفيلم بعض التلميذات الصغيرات اللاتي كن يذهبن إلى المدرسة مترددات باصطحاب آبائهن وعدم الرغبة بالالتحاق بها، ومد يد الاهتمام  والمساعدة لهن على التعلم، بينما "أمّنا الصغيرة" التي كانت تهوى المدرسة بشكل كبير، كانت تلاقي العنت والرفض من قبل والدها، وعملت المستحيل للالتحاق بالمدرسة لأجل التعلّم فيها، وكانت تأتي إليها بصورةٍ دائمة خفيةً بعيداً عن أنظار والدها لمتابعة الدروس التي تقوم المعلمة الوحيدة على إعطائها للتلاميذ الصغار من بين شقوق جدران الصف الخشبية، تتابع حل المسائل الرياضية، وتعلم حروف اللغة الإنكليزية، ومتابعة درس العلوم والتاريخ، كل ذلك بعيداً عن أنظار المعلمة، التي كانت تقضي جلّ وقتها واقفة تنصت وتشاهد كيف تعطى الدروس للتلاميذ، وعدم مشاركتهم في الصف أو حتى التفاعل مع المعلمة.

كان للمعلمة دورها الكبير مع مدير المدرسة المشرف على  إقناع أبيها بالالتحاق بالمسابقة التي ستقيمها الإدارة المركزية للتعليم

وفي يوم رأت المعلمة "أمنا الصغيرة" وهي واقفة خلف جدران الصف من بين الشروخ ونادت عليها بالتوقف عن الركض، إلّا أنها ذهبت مسرعة نتيجة الخوف الذي كان ينتابها في حال علم والدها بترددها على المدرسة وهو الذي كان يحاول إبعادها عنها بأي صورةٍ كانت، وقد استعمل معها في أكثر من مرة الضرب المبرّح للحيلولة دون ذلك، وكانت تخفي عنه في البيت  أوراقها المدرسية وبعض الكتب التي كانت تحاول أن تتعلم منها ما يمكن لتجاوز الجهل الذي تعاني منه، وللخلاص من الواقع المرير الذي كانت تعيشه مع والدها الفقير الحال الذي كان يُصرّ على إبقائها معه في العمل في أغلب الأوقات، وكسب النقود من بيع الأسماك التي يصطادانها يومياً، والتي تعد مورد رزقهم الوحيد، وفي البيت تقوم على غسل الملابس وإعداد الطعام ضمن ظروف قاسية جداً، ولأجل حسم تعلقها في المدرسة، وباقتراح من عمّها لقاء إعفائه من الديون المتراكبة عليه لذلك الزوج الدميم، فعملا على تزويجها من رجل يكبرها بثلاثين عاماً، وقضت معه أياماً قاسية لم تكن تدرك ما يخبئه لها الزمن، ورغم ذلك لم تستسلم معلمة الصف على الحال الذي وصلت إليه، فكانت تبكي عليها وترأف بحالها، فحاولت الطفلة الهرب مراراً من الواقع الذي تمر فيه، والخلاص من معاملة الأب السيئة رغم موقف مدير المدرسة من المعلمة وإساءته لها، والتنكيل بها وطلبه منها بصورة دائمة عدم إجبار أي من تلاميذ القرية على الالتحاق بالمدرسة بعيداً عن موافقة أولياء الأمور.

وفي يوم طُلب من إدارة المدرسة المشاركة في مسابقة تضمّ عددا من المدارس لأجل اختبار طلابها وكفاءتهم أمام لجنة تربوية مختصة لمعرفة قدراتهم، ولم يكن من بين هؤلاء التلاميذ الملتزمين في المدرسة من له القدرة على خوض ذلك الامتحان الرسمي لعدم استطاعتهم ذلك، والسبب هو تدنّي مستواهم التعليمي وعدم رغبتهم في تلقي العلم، وعجزهم عن استيعاب الدروس المعطاة لهم، ما اضطرهم إلى الاستعانة بتلك الطفلة التي لم يسبق لها أن زارت المدرسة أو جلست على مقاعدها، إلّا أّنّها عرفت المدرسة خفية من خلال التلصص من بين ثقوب جدرانها الخشبية المهشّمة، كانت تتابع وتراقب وبشغف وبحب كبير كل حرف يُعطى لهم، حتى أنّها عرفت الكثير عن تلك الدروس التي يتعلمها التلاميذ.

كان للمعلمة دورها الكبير مع مدير المدرسة المشرف على  إقناع أبيها بالالتحاق بالمسابقة التي ستقيمها الإدارة المركزية للتعليم، وفي حال فوزها بالمسابقة سيصار إلى منحها مكافأة مجزية، ما دفع والدها الصيّاد إلى الموافقة على طلب المدير، وعمل على إرسالها مع المعلمة للمشاركة في المسابقة الرسمية، ونتيجة فطنتها وذكائها أوصلاها إلى المرحلة النهائية للمسابقة والفوز بها عن جدارة واستحقاق متحديةً بذلك تلاميذ المدارس المشاركة ونجحت بذلك، وحققت رغبتها في  إكمال دراستها وبجدية ونجحت فيها وعن جدارة، ونالت أعلى المراتب العليا بعد أن تخلصت من المأساة التي كانت تعيشها، والذل والإهانة وحالة الإحباط والفقر المدقع الذي كان ينهش بها بعزيمة وبإرادة لا تلين.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.