سعاد درويش: ذكريات آغا الحرملك

سعاد درويش: ذكريات آغا الحرملك

07 مايو 2021
عمل اسشراقي لـ جان جوزف بنجامن كونستان، 1800 (Getty)
+ الخط -

بعد مرور تسعين عاماً على تأليف الروائية التركية سعاد درويش "ذكريات آغا الحرملك"، صدرت الرواية أخيراً في تركيا (بصورتها الكاملة في كتاب) عن دار "إتهاكي" في شباط / فبراير الماضي. وقام بجمعها الباحث سردار صويدان، الذي يذكر في مقدّمة الرواية أنها تُرجمت ونُشرت بالألمانية في سنة كتابتها عام 1931، وكانت على هيئة فصول في صحيفة "تيمبو" الألمانية، لكنّها ظلّت غائبة عن تركيا حتى عام 1953، حيث نشرتها صحيفة "صون بوسطة" على شكل فصول أيضاً، رغم انتشار بقية روايات سعاد درويش على رفوف المكتبات في تركيا.

تُعد درويش من رائدات أدب الواقعية الاجتماعية التركي. وُلدت في إسطنبول عام 1903، وبدأت بنشر أعمالها منذ عام 1921 برواية "الكتاب الأسود"، واستمرت في إصدار العديد من الروايات والمجموعات القصصية حتى رحيلها عام 1972. وتُعد أيضاً أول صحافية تركية تعمل مراسلة في أوروبا، كما أسست مع زوجها الكاتب والسياسي رشاد فؤاد برانير مجلة "الأدب الجديد"، بعد عودتها عام 1932 إلى تركيا، التي تركتها وسافرت إلى ألمانيا عام 1927، من أجل الدراسة في المعهد الموسيقي، والتحقت بعده بجامعة برلين لدراسة الفلسفة والأدب.

كتبت درويش رواية "ذكريات آغا الحرملك" أثناء إقامتها في برلين، وسلّطت فيها الضوء على أبرز الأحداث في السنوات الأخيرة من حكم السلطان عبد الحميد في قصر يلدِز.

الصورة
سعاد درويش - القسم الثقافي
(سعاد درويش)

الجديد والمهم في هذه الرواية، التي نُترجِم هنا مقتطفاً منها إلى اللغة العربية، أنها تتناول عوالم الحرملك ومؤامراته بعيون شخص خَصِيّ أسود، وهو الآغا المسؤول عن حراسة حريم القصر. كما تركّز على سيكولوجيّة هذا الشخص، الذي جاؤوا به من أفريقيا، ووصْفه لما مرّ به منذ أن خُطف وتم بيعه كالعبيد، حتى وصل إلى القصر العثماني الذي سيصفه بطريقة غير شائعة. 
ومن يقرأ العمل لا يَستبعد أن درويش التقت فعلياً بـ "آغا الحرملك" واستمعت إلى قصته وذكرياته قبل أن تصوغها في نص روائي مؤثّر.

أسئلة عديدة يمكن طرحها حول أسباب عدم الاهتمام بنشر الرواية، ككتاب، في تركيا؛ فهل المناخ العام في البلاد لم يكن يسمح بالحديث عن القصر العثماني بعينَي بطل الرواية "الخَصِيّ"، أم أنَّ طريقة تعرُّض الكاتبة للحياة الشخصية للسلطان عبد الحميد هي ما ساهم في تأخّر نشر الرواية كل هذه عقود؟ أم أنَّ هناك أسباباً أُخرى ربما لم تظهر بعد؟

أحمد وملاك دينيز...


في أول يوم جاؤوا بي إلى قصر يلدِز، استدعاني مساعد رئيس الآغاوات، وسألني بلهجة عنيفة:

- ما اسمك؟

لم أكن أستخدم الاسم الذي وضعه لي والداي. ومنذ أن خطفوني، كان كلّ من يشتريني يضع لي اسماً جديداً. فقلتُ آخر اسم وُضِع لي:

- إنني عَبْدُكُم نادر يا أفندم.

- من غير الممكن أن يصير اسمك نادر، لأن والد أفندينا في العمل اسمه الآغا نادر. ولا يمكنك أن تستخدم نفس الاسم. يجب أن أجدَ لك اسماً آخر. اعتباراً من هذه اللحظة سيصير اسمكَ خير الدين.

- أمرُكَ فوق رأسي يا آغا أفندي. أطال الله عمرك.

وهكذا أخذتُ اسماً جديداً، مثل الكلب الذي يُغَيِّر صاحبَه. كنتُ عبداً، وكنتُ الشخص الذي لا يمكنه أن يحتفظ حتى باسمه…

كان الآغا الذي يتحدث معي كبيراً في العمر، وبديناً مثل حيوان أحسنوا تسمينَه. جِلده الأسود كان يلمع، وصوته الناعم كصوت امرأة، يخلق تناقضاً بينه وبين جسده الهائل. قال لي بهذا الصوت:

- استمع إليَّ جيداً يا خير الدين. لقد صرتَ اعتباراً من اليوم من عبيد القصر الهُمَايُوني. وأظن أنّك لا تعرف معنى هذا حتى الآن. ولكن ستعرف لاحقاً بالتأكيد. لكنني سأُعَلِّمكَ الأشياء التي يجب أن تتعلمها الآن، لأنك إذا لم تتعلم هذا فلن تنعم بالراحة هنا. نعم… ينبغي عليك ألا تحشر أنفك في ما لا يعنيك، وألا تُظهر فضولاً في غير محلّه. والشيء الذي تعرفه دون قصد، من الممكن أن يجلبَ لك المصائب في هذا القصر. كن ذكيّاً وصامتاً. وأُكرّر لك، لا تكن فضوليّاً أبداً.

أعطيتُه وعداً بألا أكون فضوليّاً. إلا أن الحفاظ على هذا الوعد كان صعباً عليّ. فهل من الممكن ألا تكون فضوليّاً بين كل هذه الأشياء الجميلة والمُلْغِزة؟ إنني لم أر في حياتي حتى الآن غير قريتي والبيت الذي أُسِرْتُ فيه ومن بعده القصور الصغيرة التي رفعت مستوى رفاهيّتي درجةً درجةً.

كنتُ الشخص الذي لا يمكنه أن يحتفظ حتى باسمه

كنتُ قد سمعتُهم أكثر من مرة، وأنا في بيوت من أسروني، يتحدثون عن السلطان وقصره، ويقولون إنه إمبراطور تحت حُكْمِهِ شعوب لا حصر لها، وهو خليفةٌ لكلّ المسلمين.

كنتُ أرى من شبّاك غرفتي، القصورَ الصغيرةَ وقسماً من دائرة الحرملك في القصر المليء بالشلالات. وكانت القصور متصلة ببعضها البعض عبر جسور مغلقة وطرق بين الحدائق. شبابيكها مزخرفة من الخارج، وخلف هذه الشبابيك تعيش أجمل نساء العالم. كنّ أسيراتٍ مثلي، لكنَهنّ يعشنَ هنا في ترف. وقد سُرقنَ في طفولتهنّ أو تم بيعهنّ من قبل أقربائهنّ. وكنّ مثلي.. رأينَ العديد من المتاعب حتى وصلنَ إلى هنا. وتم بيعهنّ من شخص لآخر، ومررنَ بمِصْفَاة الجَمَال، وتم اختيارهنّ من سوق العبيد حتى وصلنَ أخيراً إلى القصر.

في هذا القسم من القصر، تعيش السلطانات اللواتي لم يتزوجنَ بعد، والأمراء، والسيدات الهوانم، وبعض الجاريات اللواتي تم اختيارهنّ بعناية. وكان لقب "السيدة الهانم" يُطلق فقط على زوجة السلطان التي أنجبت منه.

كنتُ في الخامسة عشرة، وكنتُ شخصاً فضوليّا، ومتحمساً لمعرفة كل ما بداخل هذا القصر لكي أرى الحياة هناك وأمارسها. وبعد أن تربيتُ لمدة عام في دائرة الآغاوات، أخذوني إلى الحرملك. كنتُ في معيّة مشرفة الجاريات، وهي امرأة شركسية مُسنّة تُدعى مَلاكْبَار. أدركتُ منذ دخولي إلى الحرملك أن خلف هذه الأشياء الجميلة توجد كآبة عميقة رغم الثراء والترف والأُبَّهة. وبلا شك، يُخطئ كلُّ من يظنُّ أن داخل حرملك القصر العثماني لا يوجد غير السعادة.

الصورة
ذكريات آغا الحرملك - القسم الثقافي
(غلاف الرواية)

لم يكن الضوء يدخل كثيراً من بين الشبابيك المزخرفة. والناس يهمسون، وكأنهم خائفون من إزعاج شخص مريض بشدّة. والنساء اللواتي يرتدينَ الأقمشة الغالية يعبرنَ في صمتٍ من الطُرُقات المفروشة بالسّجاد. وآغاوات الحرملك الذين يرتدون الـ"اسْتَانْبُولِين" الأسود والطربوش الأحمر، يُذكِّرون بالأشباح أكثر من البشر.

وفي أحد الأيام أرسلوني إلى رئيسة مشرفات الجاريات، التي تهتم بأمور السلطان بشكل خاص. كانت المرّة الأولى التي أقترب فيها من دائرة السلطان منذ أن أتيت إلى القصر، وعندما اقتربت من الممر المؤدي إلى دائرته، سمعت أصوات أقدام توحي بأن هناك بلبلة في الداخل. وبمجرّد أن وضعت يدي على مقبض الباب، اهتزّ فجأة فسحبت أصابعي الخائفة من عليه. انفتح الباب، وخرجت مشرفات الجواري واصطففنَ في إجلال. انسحبت إلى إحدى الزوايا، وأنا فَزِعٌ حتى من التنفس.

كان يُرى في الداخل رجل يبدو في الخامسة والثمانين، بلحيةٍ كثيفةٍ سوداء، ووجه شاحب حدّ الموت. انحنيتُ بمجرد أن رأيته، لأنني فهمتُ أن هذا هو السلطان عبد الحميد. كان يرتدي بدلة من القماش الإنكليزي، تليق بالموضة الأوروبية، وعلى رأسه طربوش كبير. وعندما رأى السلطان أمامه شخصاً لم يعرفه من قبل، انسحب خطوة إلى الوراء، دون أن ينتبه. إلا أن هذا الحال لم يطل كثيراً، وقال بصوت عالٍ:

في الحرملك أدركتُ أنّ خلف هذه الأشياء الجميلة كآبةً عميقة

- من أنتَ، وماذا تفعل هنا؟

لم أستطع أن أنطق بكلمةٍ واحدةٍ، وكأنّ ليس لدي جواب أو صوت من الأساس. أغضبه صمتي أكثر، وصرخ بصوت أعلى:
- نسألك من أنت، وماذا تفعل هنا؟

- إنني عبدكم خير الدين. جئتُ بخبر من مشرفة الجاريات إلى رئيستهنّ.

- وما هو هذا الخبر، ومنذ متى وأنت هنا؟

كانت رئيسة الجاريات تقف بجوار السلطان وهو يحدّق فيّ ثم نظر في اضطراب إلى الممر الخارجي، وقال:

- ما هو الخبر؟

كنتُ في موقف صعب، وفهمت أنه سيكون من الجيد لي أن أجيبه على الفور:

- مَلاكبَار تريد إذناً منها لكي ترتدي ثياباً خضراء في جلسة المساء التي تقيمها الهانم أفندي الثانية.

احمرّ وجه المرأة. لقد أخطأتُ على الأرجح، لأن شرح مثل هذه التفاصيل إلى السلطان أمر معيب وغير مهذّب. سألني فجأة وكأنه لم يسمع جوابي:

- إلى أين ذهب؟

لم أفهم سؤاله، ومن أين خرج هذا السؤال الآن؟ تطلّعت حولي وأنا بلا حيلة، فصرخ مرّة أخرى:

- إننا نسألك أنتَ، إلى أين ذهب؟

اقتربت رئيسة الجاريات من السلطان قليلاً، وقالت بشفقة الأم:

- لم يخرج أحدٌ من هذا الباب يا مولاي، ولم يدخل أحد. عَبْدَتُكُم لم تفارق بابكم منذ صلاة العصر. إنكم تُزعجون أنفسكم الآن بلا سبب.

كان السلطان غاضباً ولا يسمع أحداً. نظر إليَّ وازدادت الشبهة في عينيه ثم سأل:

- هل كان يرتدي زيّاً مدنيّاً أم عسكريّاً؟

قالت المرأة:

- إنكم تهلكون أنفسكم يا مولاي. فلتغضب عليَّ كما شئت، لكنني سأقول لكم نفس الشيء.

- ولكننا رأيناه مثلما نراكم الآن.

- أخوكم مريض يا مولاي، وليس باستطاعته أن يخرج من القصر.

كلّ من في القصر كان يعرف أن السلطان يخاف كثيراً من فكرة هجوم مؤيدي السلطان مراد على القصر، وإنزاله من على العرش. فالخوف من الموت والحرص على العرش وعذاب الضمير، جعلت منه رجلاً موسوساً. ولهذا السبب، صار أكثر استبداداً.

إنه يدّعي أنه رأى في غرفته الآن، السلطان مراد المحبوس في قصر تشيراغان منذ سنوات، ويبحث عنه بنفسه في القصر.

المساهمون