تونس.. إهراق الفن في سوق الحليب

تونس.. إهراق الفن في سوق الحليب

14 ابريل 2021
منى باسيلي صحناوي/ لبنان
+ الخط -

عرَضت القنوات التلفزيونية التونسية، في الفترة الأخيرة، مجموعة إعلانات دعائية لإحدى العلامات التجارية المسوِّقة للحليب ومشتقّاته، وقد اعتمدت الوصلات الإشهارية ألحانَ عددٍ من الأغنيات الشهيرة في التراث الموسيقي التونسي في القرن العشرين، مثل "بحذا حبيبتي تحلى السهرية"، و"منيّرة يا منيّرة"، مع توظيف كلماتها وتحويرها بحيث تحيل إلى معجم الحليب والبقر.

وقد وُوْجِهتْ هذه الإعلانات بموجة استنكار وسخرية، لا سيّما على شبكات التواصل الاجتماعي، كما أعلنت "النقابة التونسية للمهن الموسيقية والمهن المجاورة"، في بيان لها أصدرته الأسبوع الماضي، عن استنكارها لما أقدمت عليه شركة Natilait المصنّعة للحليب ومشتقّاته "للتشويه الممنهج ضد الأغنية التونسية والصورة السيئة التي قدّموا بها منتوجهم باستعمال ألحان لأغانٍ تونسية".

وطالبت النقابة بسحب الإشهار تقديراً للأغنية التونسية، كما دعت إلى "تقديم اعتذار رسمي للتعدّي الصارخ والذي مسّ كلّ العائلة الفنّيّة التونسية"، بحسب البيان. من جهتها، طالبت "المؤسّسة التونسية لحقوق المؤلف" بـ"التصدّي لمثل هذا التشويه ومعاقبة كل مَن تُسوِّل له نفسه الإقدام على هذا العمل الشنيع"، في إشارة إلى أن الأعمال المعتمدة في الإشهار تسيء لملحّنيها الأصليّين حتى وإن صارت حقوق ملكيّتها الفنية مشاعاً بفعل التقادم.

تستند الحملات ضدّ عدد من الإعلانات إلى كونها تسيء لرموز تونس

هذا النوع من الاستنكار تجاه الومضات الإشهارية ليس جديداً في تونس، فكثيرة هي الحملات التي دعت إلى حجب إعلانات (وأيضاً بعض المشاهد من البرامج الترفيهية) بسبب إساءتها إلى رموز البلد، مثل استعمال ابن خلدون للدعاية لماركة بسكويت منذ سنوات، حيث يقترح سيناريو الومضة استراقَ صاحب "المقدّمة" لقضمة بسكويت من طفل يلتجئ إليه. وفي الحقيقة، لا تُدعى الشخصيات التاريخية والأدبية إلى الدعاية للماركات المختلفة من أجل قيمتها الرمزية، بل تُقدَّم في كل مرّة في وضعيات هزليّة، بما يخلق حالة من الغرائبية. ويعتقد مطلقو هذه الومضات أنّها تشدّ انتباه المتفرّج وتخدم الأهداف التسويقية، في حين أن النتيجة تأتي عكسيّةً في أغلب الأوقات.

تشير هذه الظاهرة إلى استسهالٍ يحكم اختيارتِ فئةٍ من مصمّمي الإعلانات، لعلّها الأوسع بينهم، ومن ورائهم الشركات التي يقدّمون خدماتهم لها. ناهيك عن فقرٍ في القدرة على تطوير ما هو طريف بعيداً عن السخرية الخفيفة. لكنّ هذه الظاهرة ينبغي أن تُوضَع في سياق أوسع، وهو تعميم التافه والسهل والفاقد للعمق، والبحث على كل الإنتاج الإعلامي. نجد تجلّي ذلك في البرامج الحوارية وفي السلاسل الكوميدية وحتّى في الأفلام والمسرحيات.

قلّما يُنظَر إلى قطاع الإعلانات كمجالٍ إبداعي، على الرغم من حاجته إلى كثير من الروح الفنّيّة، ودوره في التأثير بأذواق الناس وفي سلوكياتهم. هناك استهانة عامة بكلّ شيء، حتّى أن الشركات التي تدفع المال للترويج لمنتوجاتها قد لا تنتبه إلى أن بعض الومضات الإعلانية تسيء لها أكثر ممّا تنفعها. ألا يأتي ذلك مصداقاً للقول التراثي العربي: يفعل الجهل بنفسه ما لا يفعله به عدوُّه؟

المساهمون