فرنسا والجزائر... فرصة أخرى ضائعة لترتيب العلاقات

فرنسا والجزائر... فرصة أخرى ضائعة لترتيب العلاقات

14 ابريل 2021
زار ماكرون الجزائر عام 2017 (العربي الجديد)
+ الخط -

ما زال طلب السلطات الجزائرية من باريس تأجيل زيارة رئيس الحكومة الفرنسية جان كاستيكس التي كانت مقررة يوم السبت الماضي إلى الجزائر، يثير الكثير من التساؤلات حول خلفيات هذا القرار ودوافعه السياسية، وما إذا كان يمثّل مشروع أزمة سياسية جديدة بين البلدين، على الرغم من بعض الخطوات السياسية التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخيراً بملف الذاكرة بين البلدين، بعد إقراراته الأخيرة بمسؤولية بلاده عن اغتيال مناضلين جزائريين وفتح أرشيف ثورة الجزائر.

لم ينتبه الكثير من متابعي ملف العلاقات الجزائرية الفرنسية، إلى تصريح مثير وغير مسبوق للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قبل نحو أسبوع، قال فيه معلقاً على الزيارة التي كانت متوقعة لرئيس الحكومة الفرنسية إلى الجزائر، إنها "لن تفضي إلى معجزة، وهي مجرد زيارة تقنية ودورية". وإضافة إلى أن تصريحاً كهذا يوضح عدم حماسة السلطات الجزائرية لهذه الزيارة وتوقيتها والظروف التي تسبقها، مع إخفاق البلدين في تحقيق تقدّم في معالجات ملف الذاكرة، فإن التفسيرات الدبلوماسية تضع تصريحاً كهذا خارج السياقات المعتادة في التعبير الرسمي عن مستوى وطبيعة العلاقات بين البلدين، وتُبرز أن ثمة مشاكل دفعت تبون إلى خفض مستوى الاهتمام الجزائري بهذه الزيارة، سواء تمت أم لم تتم.

اعتبر تبون قبل تأجيل زيارة كاستيكس، أنها مجرد زيارة تقنية ودورية ولن تفضي إلى معجزة

الطلب الجزائري الذي أعلن الجمعة الماضي لتأجيل زيارة كاستيكس، قبل يوم واحد من إجرائها، لم تُصدر بشأنه الحكومة الجزائرية بياناً تفصيلياً يوضح ظروف وملابسات هذا القرار الطارئ. بعض التسريبات أشارت إلى أن الجزائر بررت الطلب بضعف الوفد الوزاري غير المناسب الذي كان سيرافق كاستيكس، ما يعني استمرار تجميد اجتماعات اللجنة العليا المشتركة الجزائرية الفرنسية، والتي يرأسها رئيسا الحكومة في البلدين، وتجتمع سنوياً، لكنها لم تنعقد منذ آخر اجتماع لها في ديسمبر/ كانون الأول 2017، تزامناً مع زيارة لماكرون إلى الجزائر. وزاد تفجّر الحراك الشعبي في الجزائر في فبراير/ شباط 2019 والظروف السياسية التي تلت استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وتشدد الخطاب الشعبي في التظاهرات، بسبب تصريحات مسؤولين فرنسيين إزاء الوضع في البلاد، وكذلك الخطاب الرسمي الذي تبنّاه قائد الجيش الراحل الفريق قايد أحمد صالح، ضد فرنسا، من تعقيدات العلاقات بين البلدين حتى الوقت الحالي.

وعلى الرغم من أن بعض الاتصالات الأخيرة بين تبون وماكرون، وخطوات مهمة اتخذها الرئيس الفرنسي بشأن معالجة ملف التاريخ والذاكرة العالق بين البلدين، وتسليم الجزائر 36 من جماجم المقاومين الجزائريين التي كانت مودعة في متحف الإنسان في باريس، وإقراره رسمياً بفتح أرشيف الثورة الجزائرية، واعترافه بمسؤولية الدولة الفرنسية عن اغتيال المناضلين الجزائريين علي بومنجل وموريس أودان، أعطت الانطباع بأن العلاقات تسير في اتجاهات إيجابية وتتجه نحو تحقيق اختراق غير مسبوق في العلاقات الثنائية، إلا أن جملة من التطورات تبدو مؤثرة في ضرب هذا المسار مجدداً. يتصدر هذه التطورات، إبداء الجزائر عدم رضاها على ما تقترحه الرئاسة الفرنسية (ضمن تقرير المؤرخ بنيامين ستورا) كمشروع أحادي الجانب يضم 22 خطوة لتسوية الملفات التاريخية العالقة، ووصفته الجزائر بغير الجدي، كونه يحوّل الملفات التاريخية إلى أنشطة احتفائية وخطوات رمزية، من دون الأخذ بعين الاعتبار المطالب الثلاثة للجزائر من فرنسا، وهي الاعتراف بمجموع الجرائم الفرنسية، والاعتذار عنها رسمياً، والتعويضات للضحايا.

سلسلة البحث عن تفسيرات للتطورات الطارئة ومبررات تأجيل زيارة كاستيكس، تقود إلى اعتبار أن تراجع الحماسة السياسية في الجزائر إزاء هذه الزيارة مرتبط بسعي السلطة السياسية في الجزائر لتجنّب أي تأويلات سياسية أو إثارة أسئلة لدى الرأي العام في الجزائر، بشأن موعد الزيارة قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة المقررة في 12 يونيو/ حزيران المقبل. وكانت تظاهرات الحراك الشعبي، الجمعة الماضي، قد خصت في جزء هام من الشعارات التي رُفعت، هتافات لرفض هذه الزيارة، والتي تزامنت مع زيارة رئيس أركان الجيوش الفرنسية الفريق فرانسوا لوكوانتر. كما أن عدداً من الأطراف السياسية في الجزائرية استبقت زيارة كاستيكس بالإيحاء بإمكانية وجود ضغوط وإملاءات فرنسية على السلطة الجزائرية بشأن مآلات هذه الانتخابات.

كما برز أيضاً طلب وزير الاتصال والمتحدث باسم الحكومة الجزائرية عمار بلحمير، في مقابلة صحافية، من السفير الفرنسي فرانسوا جوييت، الامتناع عن لقاء قادة الأحزاب الجزائرية بمن فيهم معارضون وقياديون في الحراك الجزائري، قائلاً إن السفير "بفضل خبرته الكبيرة ومعرفته بحدود وقواعد الممارسة الدبلوماسية، لن يتردد، إذا لزم الأمر، في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتصحيح الوضع". وردت وزارة الخارجية الفرنسية على هذه التصريحات، قائلة إنها "لا تعكس جودة علاقاتنا الثنائية ولا ديناميات تقويتها، بدعم من أعلى المستويات" في البلدين.

خلف العوامل المحلية، تبدو الدوافع الخارجية لهذه التطورات أكبر بكثير، إذ تلقت الجزائر صداً من قبل الجانب الفرنسي بشأن مطالبتها منذ فترة عبر القنوات الدبلوماسية والأمنية لباريس بوقف ما تعتبرها المغالطات والحملات الإعلامية الفرنسية ضد الجزائر، وإنهاء تحركات وأنشطة لناشطين معارضين للنظام الجزائري على أراضيها، توفر لهم الشرطة الفرنسية الحماية، ويعملون، بحسب تبون، لصالح الاستخبارات الفرنسية، وتكون باريس قد رفضت في السياق تسليمهم لها. من بين هؤلاء عضو حركة "رشاد" أمير بوخرص (المعروف على مواقع التواصل الاجتماعي بأمير دي زاد)، وقائد الدرك الوطني السابق غالي بلقصير، وفارون آخرون ملاحقون من قبل العدالة الجزائرية. هذا الرفض الفرنسي تعتبره الجزائر نوعاً من التواطؤ ضد أمنها الداخلي، وهو ملف يبدو أن السلطات الجزائرية تعتبره أولوية في الفترة الأخيرة.

يدرج مراقبون مواقف ماكرون تجاه نزاع الصحراء وانحيازه للمغرب ضمن عوامل التوتر الأخير

كما يُدرج مراقبون بعض التوجهات السياسية لماكرون المتعلقة بملف النزاع في الصحراء، وانحيازه إلى طرح المغرب وقراره الأخير بفتح مكتب تمثيل لحزبه في منطقة الداخلة في إقليم الصحراء المتنازع عليه بين المغرب وجبهة البوليساريو، ضمن العوامل التي خلقت التوتر السياسي الأخير. كذلك يبرز القلق الجزائري من التحركات الفرنسية في منطقة الساحل، وهو ما بدا بوضوح في التصريحات الأخيرة لقائد الجيش الجزائري الفريق السعيد شنقريحة، خلال لقائه، الخميس الماضي، مع رئيس أركان الجيوش الفرنسية لوكوانتر في الجزائر، إذ شدد على انشغال الجزائر بأمنها في الجنوب والساحل، حيث توجد القوات الفرنسية، مع رفض الجزائر وجود القواعد الفرنسية وتعتبر ذلك جالباً للإرهاب وتشويشاً على خطة الجزائر (الموقّع عليها في مايو/ أيار 2015) لإحلال السلام في مالي.

ورأى النائب السابق عن الجالية الجزائرية في فرنسا عبد القادر حدوش، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن كل ما يحدث في طريق العلاقات الجزائرية الفرنسية يقف وراءه لوبي فرنسي لا يريد لهذه العلاقات أن تتجاوز عقدتها التاريخية. وأضاف أن "تأجيل زيارة رئيس الحكومة الفرنسية أمر مفاجئ إلى حد ما، ويجب البحث عن تفسيره في فرنسا، وأستبعد أن يكون في الجزائر"، معتبراً أن "جملة القرارات الأخيرة لماكرون في ملف الذاكرة أزعجت كثيراً الجناح اليميني في فرنسا بجميع امتداداته، والمناوئ للجزائر، ففي فرنسا لوبي حاقد على الجزائر بنجاحاتها يرفض الاعتراف بالجرائم الاستعمارية". ورأى أن هذا الجناح يحاول تعطيل كل استجابة فرنسية للمطالب الجزائرية، ويؤجج في كل مناسبة النقاش والحملات الإعلامية حول الأوضاع في الجزائر، ويستغل الأخطاء التاريخية ويراهن على استمرار الخلافات بين البلدين.

المساهمون