"صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر" ليسرى مقدّم: ليست ككل الروايات

"صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر" ليسرى مقدّم: ليست ككل الروايات

11 ابريل 2021
يُسرى مقدِّم
+ الخط -

انتظرت يسرى مقدِّم حتى الفصل الأخير من الكتاب لتقف عند ما يبدو أنه بداية متأخّرة لكتاب بُني عليها، ولتُفصح هكذا عن سبب الكتاب وسرّ عنوانه "صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر". في هذا الفصل، تُخبرنا الراوية كيف حذفتها ابنتها من الصورة العائلية ونشرتها بدونها. هذا الغياب ليس جديداً على الرواية، فهو تقريباً يتوارد مراراً في الكتاب، فالأمّ الغائبة والغياب الأمومي لا تلبث الرواية أن تعود إليهما مرّة بعد مرّة. قد يتراءى لنا لذلك بعد قراءة الفصل الأخير أنّ الراوية، ربما أرادت أن يكون ذلك موضوع الكتاب، أو على الأقل محوراً فيه.

لا يسع القارئ إذ ذاك إلّا أن يسمح لنفسه بقراءة معكوسة للكتاب من آخره إلى أوائله، حيث نعثر في الصفحة الأولى على ملاحظة عن جنس النص تقول إنه "تشكَّل من تلقائه... نصّاً حراً، سائب الضفاف". والحال أننا نحتار فعلاً أمام شكل النص ومعماره، وقد يتراءى لنا روايةً، فيما يبدو درساً بسيكولوجياً، أو تحقيقاً حول الأمومة، أو اعترافاً ومذكّرات، لكن هذه الحيرة لا تطول، فالنص في تنوُّعه لا يفعل شيئاً محظوراً على الرواية، أو لم تحاوره روايات، فهو في ارتكازه على علم النفس، وفي تمحوره حول الأمومة، وفي سرده التحليلي، لا يخرج عن أنواع سبقت من الرواية. لا نتملّق النص إذا قلنا إنه، في النهاية، رواية. ذلك لا يعني أنه ليس حرّاً سائب الضفاف، فالرواية تقبل ذلك. إنها أيضاً، إلى هذه الدرجة أو تلك، نص حر سائب الضفاف.

قد يبدو النص مع ذلك تحقيقاً حول الأمومة أو مبحثاً فيها، أو اعترافاً عنها. هذا ما يردنا إلى ما تسميه الكاتبة معمار النص وهندسته. هنا لا نخطئ إذا قلنا إنّ للنص معماره وهندسته المستويين والمقصودين والمشغولين بدرجة من العناية. تريد الراوية أن تروي معاناتها للأمومة، ذلك في ما يبدو، لأول وهلة، محور النص وقاعدته، لكن الكتابة هنا تنبني على نحو خاص.

لا تملك الراوية أن تقدّم تجربتها الأمومية دون محاكمة

الراوية لا تملك أن تقدّم تجربتها الأمومية بدون محاكمة دائمة، بل إن روايتها في الأغلب هذه المحاكمة، لكن المحاكمة لا تتم بدون مثال تعود إليه وتتخذ منه مرجعاً ومعياراً وحكماً بالتالي. هنا مثال مأخوذ من أمومة أُخرى هي أمومة والدة الراوية، أمومة لا تني الراوية تسترجعها عند كل مفترق، تحكمها وتسألها، فالنص هو أيضاً حوار دائماً مع الوالدة الراحلة، وأمومة هذه الوالدة كانت هي أيضاً، وما زالت، موضع مراجعة وتحليل، لكن هذين المراجعة والتحليل، ينتميان إلى فترات مختلفة. لقد كان للابنة في يوم حكمها السلبي عليهما، لكن هذا الحكم السلبي هو مثل ماضيها الثوري وشبابها الأول، عُرضة لنقد وانسحاب ما يتبقى بعد ذلك تجاه الأم إيجاب مطلق، بل نوع من التقديس.

في الصفحات الأولى نقرأ: "كنت أمّاً رسولية". هذا النعت الديني يستتبع نعوتاً أُخرى مماثلة "عشرة أعوام كانت كافية لتحملي لقبك "العذراء مريم"، ونقع في مكان آخر على "أمي الجميلة والملائكية"، وسنجدها منعوتة بـ"الطهرانية" و"أيوبة الأمّهات". هذا ما انتهت إليه الوالدة التي تعرّضت في فتوة الابنة إلى محاكمات قاسية، تستعيدها في إطار المراجعة والنقد الذاتي. لا بد أنَّ هذه المثالية بدت للابنة في أوقات مزعومة وعائدة إلى أنانية مضمرة، بل وبدا في مواضع من الرواية أنَّ الوالدة تفتعلها وتجتلبها عن قصد لنفسها أو لغيرها. هذه المحاكمة كانت من شطحات الشباب ومن ترّهاته، بل كانت في الغالب أعذاراً تخترعها الابنة لتبرّر لامبالاتها وغيابها، هي التي ما لبثت أن صارت أمّاً، وألقت بابنها إلى أمّها، في نوع من غياب الأمومة، كما تكتب يسرى مقدِّم التي لا تنقصها غالباً الصور النافذة والتسميات النافذة، والأسلبة الموازية للمشاعر والتأملات.

الصورة
غلاف

تحاكم الراوية نفسها، وتنتصر كل لحظة لوالدتها في نوع من التذنيب الذاتي. هنا ننتقل من أمومة رفيعة مقدّسة إلى أمومة متدنّية أرضية، هي أمومة الراوية المشوبة منذ البداية باللامبالاة، بل وغياب الأمومة تجاه ابنها من زوجها الأول، وبالذوبان الأمومي في ابنتيها من زواجها الثاني. هذا الذوبان يتعرّض هو الآخر إلى نقد منبثق على الغالب من يساروية الشباب، "ليس هذا منتهى الحب حتماً، إنما هي نزعة التملك اللاواعية مقنعة بالحب تمويهاً".

لا بد أن ابنتها التي انتزعتها من الصورة العائلية، تفكّر بهذه الطريقة. لا بد أن الراوية نفسها التي برّأت والدتها من أحكام كهذه، لا تزال تحاكم نفسها بهذه الطريقة. لكن الأمومة الأولى، أمومة سكنة والدة الراوية، هي وحدها التي تنجو من هذه المحاكمة، هي التي تغدو، بمصطلح ديني معصومة. التذنيب ونزعة التملّك والأنانية العمياء، أحكام لا تنزل عنها الراوية، رغم أنها تنتقد نفسها حين تحاكم بها أمّها "المعصومة الرسولية" على حد تعبيرها.

لا تحتجّ الراوية كثيراً على حذف صورتها من اللوحة العائلية، إنها تبدو في جلدها لذاتها قابلة لأن ترضاها. الوالدة سكنة هي وحده الرسولية الملاك، فيما تغدو الابنة والحفيدة كلتاهما تتخبّطان في متاهة بسيكولوجية، وكلتاهما فاقدة لرسولية الأم الأولى ومعصوميتها. هنا نفكّر بما روته الراوية من خروجها عن الدين في شطحة لا نعرف حكمها عليها. النص هكذا يتركّب من عمارة قوية، ولغة قادرة على أن تترسم الصراع الفكري والبسيكولوجي، إننا أمام رواية ليست ككل الروايات.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون