شيخ الربوة الدمشقي... وصف أحوال المملكة الصفدية بعد خروج الصليبيين

شيخ الربوة الدمشقي... وصف أحوال المملكة الصفدية بعد خروج الصليبيين

20 فبراير 2021
رسم لصفد في القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

أعاد الظاهر بيبرس تقسيم بلاد الشام من جديد؛ بعد افتكاك مدن الساحل الشامي من أيدي الصليبيين، ولكنه لم يعد إلى التقسيمات الأيوبية ولا السلجوقية، بل أعاد العمل بالتقسيمات القديمة الموروثة من عصر الفتوحات الإسلامية، والتي كانت بدورها تقسيمات موروثة من الحقبة الرومانية، فأطلق على الولاية المسمّاة جند الأردن اسم المملكة الصفدية، وجعل عاصمتها مدينة صفد في الجليل الأعلى، لتضم الكثير من مدن وحصون شمالي فلسطين وجنوبي لبنان إلى تبعيتها. ولكن هذه المملكة تلاشت مع دخول العثمانيين إلى بلاد الشام وألحقت بولاية شام شريف.

وقد استرعت هذه المملكة المهمة اهتمام الكثير من الرحالة والبلدانيين الذين نشطوا في العصر المملوكي، كالعثماني صاحب تاريخ صفد، وابن فضل الله العمري، وابن شاهين الظاهري، وشيخ الربوة الدمشقي، وغيرهم، إذ وصفوها بشكل مفصل، وخصصوا لها الفصول والأبواب في مصنفاتهم.

ويعدّ نص شيخ الربوة واحداً من أهم هذه النصوص، فقد زارها مرات عدة؛ وكتب عن معلم أثري عجيب فيها هو برج صفد الذي بناه الظاهر بيبرس بارتفاع يصل إلى 60 متراً، حتى شبهه بمنارة الإسكندرية، ولا شك في أن هذا البرج لم يصمد طويلاً بسبب الزلازل الكبرى التي تعرضت لها المدينة، والتي كان آخرها زلزال عام 1837م الذي ذهب ضحيته حوالى 5000 من سكانها ودمرت فيه المدينة القديمة تدميراً شاملاً.

وشيخ الربوة هو أبو عبد الله محمد بن أبي طالب الأنصاري الدمشقي، كان إماماً لمسجد الربوة، قرب دمشق، فنسب إليها، ولقب بالصوفي لميله إلى التصوّف. ويبدو أن ميوله الصوفية قد أدت به إلى اعتزال العالم آخر حياته، فقد أقام ببعض نواحي الجليل متزهداً، إلى أن توفي في صفد عام 727هـ، 1337م، أي قبل وفاة المؤرخ والجغرافي أبي الفداء بخمس سنوات.

وضع شيخ الربوة خلاصة رحلاته ومعارفه في كتاب سماه "نخبة الدهر في عجائب البر والبحر"، استطرد فيه بالحديث عن الأقاليم السبعة، وكتب وصفاً للأنهار والعيون والآبار، وبحثاً في البحار، وخاصة البحر المتوسط، وكذلك معلومات كثيرة عن النبات والحيوان والمعادن وطبقات الأرض. كذلك تضمن شروحات مستفيضة عن ممالك الشرق والغرب، من الهند وإيران والشرق الأدنى ومصر وأفريقيا الشمالية.

ومع أن رحالتنا يشير إلى خراب معظم الحصون والمدن التي كان الفرنج يحتلونها في جنوبي بلاد الشام، إلا أنه يشير إلى ازدهار الأعمال والقرى التابعة لها، وهو ما نجده مفصلاً في كتاب ابن شاهين الظاهري.

حقق كتاب "نخبة الدهر" المستشرق الدانماركي ميهرن عام 1866 ميلادية، وصدر بطبعة أخرى في سانت بطرسبورغ عام 1886 ميلادية، ثم أعيد طبعه في لايبزغ عام 1923 ميلادية بنسخة تحقيق ميهرن ذاتها مع ترجمة فرنسية. وفي هذه الطبعات أغلاط إملائية كثيرة، وهي بحاجة إلى تحقيق، وتصويب للكلمات والأسماء وشرح للمفردات، بما يعطي هذا الكتاب حقه، ويجعله سهل التناول من قبل الباحثين والراغبين في الاطلاع على الأحوال في مطلع العصر المملوكي.


مذبحة فرسان الداوية

يضع شيخ الربوة مملكة صفد بالمرتبة السادسة في ترتيبه لممالك بلاد الشام الثماني، وهي مملكة دمشق، ومملكة حمص، ومملكة حلب، ومملكة حماة، ومملكة طرابلس، ومملكة صفد، ومملكة الكرك، ومملكة غزة. ويقول معرفاً بعاصمة هذه المملكة: "وصفد حصن بقنّة جبل كنعان في أرض الجرمق. كانت قرية فبني مكانها حصن سمّيت صفت، ثم قيل صفد. وهو حصن منيع. وكان بها طائفة من الفرنج يقال لهم الداوية، فحصرهم فيها الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي رضي الله عنه، وفتحها وقتل كل من فيها على رأس تل بالقرب منها".

وفرسان الداوية الذين يتحدث عنهم شيخ الربوة هم جماعة رهبانية مقاتلة تأسست عام 513هـ/ 1119م، عرف أعضاؤها في العصور الوسطى باسم "فرسان المسيح الفقراء"، أو "فرسان الهيكل" وسماهم المصنفون العرب باسم "الداوية"، وفيما يخص الحادثة التي يشير إليها شيخ الربوة، حول قتل الظاهر بيبرس لأعضاء هذه الفرقة، يرد في كتاب أعمال القبارصة أن بيبرس وعد المسيحيين السوريين المقيمين في صفد المحاصرة بالإبقاء على حياتهم، وأنه لم يشأ إلا قتل فرسان المعبد، وعند انسحابهم بعد اتفاق الصلح وجد أنهم خالفوا شروط الانسحاب باستصحابهم أسلحة، وإخفائهم أسرى مسلمين بينهم، ولذلك قرر بيبرس أن يجري إعدام هؤلاء الفرسان وعددهم نحو 1500 فارس على تل قريب كان يستخدم موقعاً لإعدام الأسرى المسلمين. وفي صفد مغارة تسمى مغارة عنتر مملوءة بهياكل عظمية موجودة حتى اليوم، يقال إنها كانت قبراً جماعياً لفرسان الداوية.


البرج الكبير والبئر الأعجوبة

يخبرنا شيخ الربوة أن الظاهر بيبرس دمّر الحصن الذي كان يعتصم فيه الفرسان الداوية وبنى بحجارة الحصن "برجاً مدوّراً سماه قلّة، ارتفاعه في السماء مائة وعشرون ذراعاً، وقطره سبعون ذراعاً".

ويقول إن الصعود إلى هذا البرج الشاهق له طريقان، واحد للصعود والآخر للهبوط، وإن هذا الطريق الصاعد إلى الأعلى يتسع لصف من خمسة أفراس بلا درج؛ في ممشى حلزوني. ويتحدث عن ثلاث طبقات من الأبنية، إضافة إلى منافع وقاعات ومخازن. وتحت هذا كله بئر للماء من مطر الشتاء، تكفي لأهل الحصن من الحول إلى الحول. ويقول: "وهو أشبه بمنارة إسكندرية".

ويتحدث رحالتنا عن البئر بوصفها من عجائب الدنيا، حيث يقول: "بهذا الحصن بئر تسمّى الساتورة، وعمقها مائة وعشرة أذرع، في ستة أذرع بذراع النجار، والدلاء التي لها بتاتي من الخشب، تسع البتية نحو قلّة من الماء، وهما بتيتان في حبل واحد يسمى سرياق، كغلظ زند الإنسان، وكلّما وصلت بتية إلى الماء، وصلت الأخرى إلى رأس البئر، وكلما وصلت واحدة إلى رأس البئر، وصلت الأخرى إلى الماء".

ويضيف: "على رأس البئر ساعدان من حديد بكفّين وأصابع، تتعلق الأصابع في حافة البتية الملآنة وتجذبها الكفان، فينصب الماء في حوض يجري فيه إلى مقره، فإذا انصب الماء من البتية حصل القصد، والجاذب لهاتين البتيتين مرمّة هندسية بقسيّ ودوائر وحركات، لا يزال ذلك السرباق راكباً على بكرته طرداً وعكساً يمنة ويسرة. وحول المرمّة بغال معلّمات تدور بذلك، فإذا سمع البغل الدائر خرير الماء وجرّ السلسلة انقلب راجعاً على عقبه، ودار يمشي في مرتبته بخلاف ما كان يمشي، إلى أن يسمع خرير الماء وجرّ السلسلة، فينقلب دائراً إلى خلاف دورته كذلك أبداً".

ويقول عن البئر: "هي من أعاجيب الدنيا، فإذا وقف واقف وتكلّم كلمة واحدة في رأس البئر؛ سمع رجع صوته بتلك الكلمة نازلاً نحو لحظة جيدة حتى يبلغ الماء، ثم يعود إليه فيسمعه كما قالها. فإن صاح وغلب سمع دوياً واضطراباً بذلك الصياح كالرعود لبعد الماء وعمقه. والكفّان الحديد مثلهما في وضعهما كهذه الهيئة والله أعلم".


بلاد الشيعة الإمامية

يبدأ شيخ الربوة بتعداد الأعمال التي تشكل المملكة الصفدية فيبدأ من قلعة الشقيف التي يقول عنها: "ومن البلاد والأعمال المضافة إلى صفد ثغر شقيف أرنون، وهو حصن منيع فتحه الملك الظاهر من الإفرنج. وله عمل واسع. ونهر ليطة يمر تحت جبله". ونهر ليطة يعرف اليوم باسم نهر الليطاني. وأيضاً: "معليا قلعة مليحة جبلية حصينة وبأرض معليا القرين، قلعة مليحة منيعة بين جبلين، كان ثغراً للفرنج فتحه الملك الظاهر رضي الله عنه، وله وادٍ نزه معروف به من أنزه البقاع، وبه من الكمثرى المسكي، المعطر الرائحة الطيب الطعم، ما لا بغيره، ومن الأترنج ما تكون الثمرة الواحدة نحو ستة أرطال دمشقية".

ومن الأعمال التابعة لصفد "جبل عاملة، عامرة بالكروم والزيتون والخرّوب والبطم، وأهله شيعة إمامية، وجبل جبع، كذلك أهله رافضة، وهو جبل عالٍ كثير المياه والكروم والفواكه، وجبل جزين، كثير المياه والفواكه، وقلعة شقيف تيرون، قلعة حصينة على جبل عالٍ، ولها عمل ولها نائب، ولم يحكم عليها منجنيق، وجبل تبنين، وله قلعة، ولها أعمال وولاية، وهم شيعة إمامية، وقلعة هونين، وهي على حجر واحد، ولها أعمال".

بعد ذلك يتحدث عن بلاد الخيط التي تقع ما بين بحيرتي الحولة وطبريا حيث يصفها بقوله: "الخيط، هو قطعة من الغور الأعلى، شبيه بأرض العراق في الأرز والطير والماء السخن، والزروع المنجبة". ويضيف: "من أعمال صفد مرج عيون. وأرض الجرمق، وهي مدينة قديمة عادية، كانت بها طائفة من العبرانيين ينسبون إليها يقال لهم الجرامقة. والكنعانيون بوادي كنعان بن نوح عليه السلام". والحق أن الجرامقة ليسوا من العبرانيين كما يتوهم شيخ الربوة، بل هم من بقايا الإيطوريين على الأرجح، وربما كان توهمه ناتجاً من أن بعض المراجع التاريخية وخصوصاً جوزيفوس فلافيوس يتحدث عن تهود الإيطوريين سكان الجليل.


بلاد الدروز

يرصد شيخ الربوة مناطق الدروز التابعة لمملكة صفد فيتحدث عن عمل جبل بقيعة الذي يضم الكثير من القرى، وهو منسوب إلى "قرية يقال لها البقيعة لها أمواه جارية، ولها سفرجل مليح، وبه قرى كثيرة الزيتون والفواكه والكروم". وأيضاً عمل جبل الزابود المشرف على مدينة صفد، ويقول إن هذا العمل فيه قرى كثيرة، ويذكر أن سكان هذا الجبل "دروز حاكمية أمرية، وهم قوم دهرية حلولية (..) ينكرون الشرائع، ويعتقدون التناسخ (..) ويعتقدون أن الحاكم ظهر مظهر الإله. تعالى وتقدّس عما يقولون علواً كبيراً".

ومعظم سكان هذا الإقليم الدرزي غادروه على فترات زمنية مختلفة، وربما كانت أكبر عملية نزوح منه أيام الشيخ ظاهر العمر، حيث انتقل هؤلاء الدروز الصفديون إلى جبل حوران، وما زالوا يحتفظون بلقب الصفدي حتى الآن.


طبرية

من أعمال صفد الأخرى عمل طبرية نسبة إلى مدينة طبرية التي يصفها بقوله: "كانت قصبة جند الأردن، وهي مدينة مستطيلة على شاطئ بحيرتها. وطول البحيرة اثنا عشر ميلاً، وعرضها ستّة أميال، والجبال تكتنفها، ومنها يخرج نهر الشريعة ويصب في بحيرة زغر. وعلى شاطئ بحيرة طبرية منابع حارة شديدة الحرارة تسمى الحمامات، وماء هذه الينابيع ملحي كبريتي نافع من ترهل البدن، ومن الجرب الرطب، ومن غلبة البلغم وإفراط العبالة. يقال إن في البحيرة قبر سليمان بن داود عليه السلام".

وبعد ذلك يتحدث عن قرية حطين فيقول فيها: "حطين، بها قبر شعيب عليه السلام، وعلى هذه القرية كانت وقعة عظيمة بين المسلمين والفرنج، وكان ملك المسلمين صلاح الدين قد كسر الفرنج على قرن حطين، وقتل منهم خلقاً كثيراً وأسر ملوكهم، وبنى على قرن حطين قبة يقال لها قبة النصر". ولا أثر اليوم لقبة النصر المذكورة اليوم.


كفر كنا والناصرة

يضيف: "ومن أعمالها كفركنا، وهي قرية كبيرة بها مقدمو العشائر ورؤساء الفتن والهوى، يسمون قيس الحمراء. ولها من الأعمال البطوف، ويسمى مرج الغرق، وهي بين جبال محيطة بها من كل مكان، ومياهه الأمطار تجتمع فيها فتصير بحيرة متسعة تشرب مياهها الأرض، وكلما جف مكان منها زرعه الزراع كما يفعل أهل مصر".

وحول مدينة الناصرة يقول: "من أعمال صفد أيضاً مدينة الناصرة، وهي مدينة قديمة تسمى ساعير، ومنها ظهر المسيح عليه السلام، وموضع البشارة به من الملائكة لأمه مريم عليها السلام معروف، يزوره النصارى وغيرهم. وفي التوراة تسميتها وتسمية مكّة شرّفها الله تعالى لتبين رسالتي المسيح ومحمد (ص)، وذلك ما ترجمته: جاء الله من سينا يعني موسى بن عمران والتوراة، وأشرق من ساعير وجبال الساعير، يعني المسيح الناصري الذي خرج من الناصرة، وجبال الساعير جبال الناصرة، واستعلن بفاران، وبرية فاران يعني مكة والحجاز، ويعني نبينا محمد (ص) والقرآن. وأهل الناصرة كانوا مفتاح دين النصرانية ومنشأه وأساسه وذلك في زمن قسطنطين، وسنقص القصة في مكانها إن شاء الله تعالى".

ويشير شيخ الربوة إلى الصراع القيسي اليماني فيقول إن مدينة اللجون مضافة إلى مقدمي العشائر وأن أهل الناصرة من الحزب اليماني وأهل كفر كنا من الحزب القيسي، وأضاف أن مدينة جنين مضافة على هذا العمل.


عكا وصور

يختم حديثه عن أعمال المملكة الصفدية بعكا وصور وأعمالهما، وصيدا وأعمالها، ويقول إن لها مدناً قديمة وأعمالاً كباراً. وحول مدينة عكا يقول: "بناها عبد الملك بن مروان، وغلبت عليها النصارى (الصليبيون)، ثم فتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب، وهو الملك الناصر، ولم يفتح صور صلاح الدين يوسف، فغلبت عليها النصارى، ففتحها صلاح الدين خليل ابن الملك المنصور وأخربها، وفتح بفتحها عثليث، وحيفا، وإسكندرونة، وصور، وصيدا، وبيروت، وجبيل، وأنفة، والبثرون، وصرفند في مدة سبعة وأربعين يوماً، وكان فتحاً مبيناً وثغراً غزيراً".

المساهمون