أفلامٌ لبنانية تصنع انتفاضاتٍ

أفلامٌ لبنانية تصنع انتفاضاتٍ

28 يناير 2021
السينما حاضرةٌ في مفاصل لبنانية كثيرة (جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -

يصعب اعتبار لحظة "17 أكتوبر" (2019) اللبنانية "ثورةً". تعبير حراكٍ، رغم ما يحمله من إيجابياتٍ، أقلّ من الحاصل واقعياً. الانتفاضة أنسب وصف، فالرغبة في مواجهة نظامٍ فاسدٍ وناهبٍ، المترجمة ميدانياً بتظاهراتٍ واعتصامات وقطع طرقٍ بشكلٍ سلميّ، تقول إنّ لبنانيات ولبنانيين يريدون خلاصاً من الخراب الذي يعتمل في البلد، اقتصاداً وسياسةً وإعلاماً، والذي يُدمِّر حياتهم اليومية، فينتفضون عليه، ولو إلى حين.

السابق على "انتفاضة 17 أكتوبر" يتمثّل بتحرّكاتٍ، يُعبِّر صانعوها والمشاركون فيها عن رفضهم تصرّفاتٍ نظامٍ إزاء مسائل عدّة تمسّ عيشهم. "14 مارس/ آذار 2005" مختلف تماماً. التظاهرة المليونية ردٌّ على خطاب "شكراً سورية" (8 مارس/ آذار 2005)، الحاصل بعد أيام على اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية، رفيق الحريري (14 فبراير/ شباط 2005). العطب يُصيب، سريعاً، ذاك اللقاء العابر للطوائف، واللاحق عليه ماثلٌ في ذاكرة ووجدانٍ، وتأثيراته مستمرّة ـ بشكلٍ أو بآخر ـ في رفد اليوميات اللبنانية بسلبيّات شتّى.

السينما حاضرةٌ في مفاصل لبنانية كثيرة كتلك. انغماس الكاميرا في غليانٍ يوميّ يبرزه سينمائياً، لكنّه غير متوقّف عن الاشتغال الفنيّ خارج اللحظات التي تُعتبر محطّات أساسية في المسار التاريخي للبلد وناسه. السينما اللبنانية تغوص في أزمات، وتُنقِّب في مآزق، وتواجه وقائع مخبّأة عبر مرايا ذاتٍ وجماعة. تنبش في الماضي لتبيان بعض جذور الخراب الآنيّ، ولكشفِ مغيّبٍ يُراد له نسيان مطلق، ولنقل ما يبوح به معنيون مباشرةً بأحداثٍ، والبوح يحمل في طياته بعض معالم لحظة وحالة وانفعالٍ وتصرّف.

ملفّات حربٍ أهلية وسلمٍ ناقصٍ تبقى معلّقة، فالنظام المتكوِّن بعد انتهاء تلك الحرب (1975 ـ 1990) يحول دون أيّ إجابة عن أسئلة كثيرة، تطرحها الملفّات المعلّقة: المفقودون والمخطفون والمغيّبون قسراً، المعوّقون، بيع أعضاء بشرية ومواليد جدد، التهجير والتغييرات الديموغرافية المقصود إحداثها في ظلّ الحرب، العلاقات بين الطوائف، إلخ. السينما اللبنانية، الوثائقية بشكلٍ أكبر، تخوض معركة كشف حقائق وتوثيق وقائع وفضح مُغيّب، فتواجه قمعاً ورفضاً ومنعاً، من دون تنازلاتٍ تُفرض عليها فيرفضها صانعوها.

ألن تكون السينما، بأفعالها تلك، حراكاً يجمع الواقعيّ بالفنيّ، ليقول شيئاً من غليان أناسٍ، يُمنع عنهم كلّ بوح أو تحرّك؟ ألن يكون حقيقياً القول إنّ السينما، بنبشها في المستور وبكشفها بعضه على الأقلّ، تمارس فعلاً ثورياً، يرفض الصمت، ويواجه القمع، ويكافح من أجل حرية تعبير، عبر إظهار بعض المخفيّ والممنوع؟ ألن تُعتبر أفلامٌ منضوية في هذا الإطار انتفاضةً حيّة على الخوف والاختباء والتقوقع في الزوايا الضيّقة، وعلى الصمت المفروض، وعلى النسيان المنشود، وعلى تحريم المسّ بقضايا، يجب تناولها لتبيان مفاصلها، بحثاً عن حلول جذرية تمنع انغماساً جديداً في حروبٍ ملتبسة، وسلمٍ هشّ؟

اللحظات التاريخية اللبنانية، بعد النهاية المزعومة للحرب الأهلية على الأقلّ، نادرةٌ، رغم خراب مبطّن يُصنع يومياً. "14 مارس" (2005) و"17 أكتوبر" (2019) أبرز تلك اللحظات، المُعوَّل عليها فعلياً في إحداث تغيير، لولا تضافر جهود أطراف النظام الحاكم، كلٌّ لسببٍ أو لمصلحة، على إنهائها إمّا سلماً (14 مارس) أو عنفاً (17 أكتوبر). السينما، في هاتين اللحظتين، حاضرة أيضاً، وإنْ بتواضع وخفرٍ. فيلما "الـ23" لراني بيطار ("العربي الجديد"، 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) و"أرزة تشرين أو "أرز أكتوبر" ("العربي الجديد"، 11 يناير 2021) بداية اشتغالٍ يوثِّق جوانب من انتفاضة، تُعطّلها تنانين السياسة والمال والاقتصاد، ويقمعها عنف "التشبيح" المليشياوي، ويواجهها وباء كورونا.

لا اختصار لحالة سينمائية لبنانية في مقالة واحدة. الحالة ترافق مسار بلدٍ ومصير شعبٍ، والسينما جزءٌ من ذاك المسار. أفلام لبنانية تنبش في المخفيّ، فيكون فعلها انتفاضةً من نوعٍ آخر: "سمعان بالضيعة" (2009) لسيمون الهبر، و"لي قبور في هذه الأرض" (2014) لرين متري، و"بانوبتك" (2018) لرنا عيد، أمثلةٌ تقول وقائع عن بلدٍ ممزّق، فتُمنع من العرض. اشتغالات صانعيها تندرج في سياق التمرّد على الصمت، فتُصبح أشبه بانتفاضةٍ لن يتمكّن كثيرون من حمايتها ميدانياً، والذهاب بها إلى تحقيق أهدافٍ منها.

معظم النتاج السينمائي في لبنان فعل ثوري، وحركة متمردة. استعادة أفلامه تؤكد هذا، كأن السينما انتفاضة دائمة.

المساهمون