في عيد ميلادي السابع والعشرين

في عيد ميلادي السابع والعشرين

22 يناير 2021
+ الخط -

روائح الثلاثين بدأت تهاجمني بخفة، وبدأت أشم طيف رائحة الأنوثة الكاملة ينضح من فساتيني، فاليوم عيد ميلادي، وقد أتممت سبعاً وعشرين سنة... ولدت في فصل الشتاء، في سورية، ولكنني كنت أود أن أولد في فصل الصيف، في إيطاليا، وألا أتعلق بشيء أو أحد أو بلد، أن أستطيع تغيير اسمي وعنواني وشكل وجهي وطولي ووزني كلما شعرت بالملل، أو تغيير مهنتي كلما بدأ العمل بها يصبح روتينياً، كنت أودّ أن أخبئ النجوم في صدري كي لا أخاف في الظلام، وأن أضع ذكرياتي في صندوق مقفل أفتحه فقط عندما أريد، لكن يبدو أن أغلب ذلك مستحيل!

عندما أحاول تخيل لحظة ولادتي أسمع الطبيب يقول لأمي: "مبارك، طفلة لطيفة، عشرة أصابع في اليدين وعشرة في القدمين، نقص في هرمونات الاستقرار، وإصابة بمتلازمة الرغبة الدائمة بالرحيل والتغيير"، لا أدري إن كانت كلمات الطبيب لعنة أم هبة! لكنني أعرف اليوم أن ذلك الطبيب كان مستبصراً، فعندما كنت في الثانوية اخترت الفرع العلمي دون أن أستشير أحداً، ولكنني بعد أن حصلت على شهادة البكالوريا فيه، قررت أنني أريد دراسة فرع أدبي في الجامعة، تخرجت من الجامعة وعملت بالتدريس مدة أربع سنوات، ويوم قررت التخلي عن تلك المهنة لم يكن قراري مفهوماً حتى لأقرب الناس إليّ، تركت التدريس وتركت معه منزل أهلي وقريتي وانتقلت إلى محافظة أخرى، دون أن أخطط لحياتي فيها بأي شكلٍ من الأشكال، دفعت إيجار غرفتي وبقي معي من النقود ما يكفي مدة أسبوعين على الأكثر، ولكنني كنت على يقين تام بأن الحياة مغامرة، وأن فكرة الاستقلال النفسي والمكاني والمادي تستحق التجريب، وجدت عملاً في شركة عن طريق صديق، وبعدما وطنت نفسي فيها واستلمت جزءاً من مهام الإدارة بدأ الملل يتسرب إليّ وفقدت اهتمامي بالأشياء، فقدمت استقالتي وقررت التفرغ للكتابة فقط... لا أدري بعد ما الخطوة التالية، ولكن، هل تستطيع قطرة الماء أن تتنبأ بمسارها؟

تلحّ عليّ الذكريات بين الحين والآخر، إذ يبدو أنني لا أستطيع أن أنسى وجهاً أحببته يوماً، لكنني أستطيع وبمهارة عالية أن أستحضر تلك الوجوه وهي مبتسمة، وأن أربط ابتساماتها بلحظاتنا الحلوة معاً، وبذلك تصير كل ذكرياتي ملونة، أما الذكريات التي أعجز عن تلوينها بسبب قسوتها فأتقبلها بحزن رحب، وأحياناً عندما تستطيع سحبي إلى عالمها ولو لوقت قصير أجري تغييراً على الصعيد الشكليّ، كأن أقصّ شعري، أو أغير لونه، أو أشتري عطراً جديداً، أو فستاناً، أو حذاء... ولكن رغم كل ما أفعله ورغم كل الطرائق التي أجربها إلا أنني أدرك أن هنالك دائماً أشخاصاً تركوا أو سيتركون في حياتي أثراً لا يُمحى مهما مرّ عليه الزمن، ولن تستطيع كل حيلي أن تمحو حضورهم القوي في ذاكرتي.

بالنسبة للمجتمع وأهلي لم أعد صغيرةً، وفي الحقيقة فقد بدأ أبي يقلق وتصاعدت وتيرة إلحاح أمي عليّ بالزواج، وأظن أن كلامهم قد أحدث تأثيراً طفيفاً عليّ، وقد شعرت بشيء من الإحباط وأنا أتخيل كيف ستكون حياتي خلال العشر سنين القادمة،

اليوم أول يوم لي في سنتي الثامنة والعشرين، بالنسبة للمجتمع وأهلي لم أعد صغيرةً، وفي الحقيقة فقد بدأ أبي يقلق وتصاعدت وتيرة إلحاح أمي عليّ بالزواج، وأظن أن كلامهم قد أحدث تأثيراً طفيفاً عليّ، وقد شعرت بشيء من الإحباط وأنا أتخيل كيف ستكون حياتي خلال العشر سنين القادمة، أو كيف قد أنتهي وحيدةً في بيتي أعاني من العزلة، لكنني لم أستسلم لسوداوية خيالي وفكرت: إن الشعوب تكون فتيةً في عمر الثمانية والعشرين، والحضارات أجنة، والأرض لم تكمل تشكلها بعد! وإنني في عمر الأربعين سأكون امرأةً جميلةً تحب الحياة وتهتم بنفسها وتحيا كفتاةٍ في العشرين، لكن الفارق الوحيد الذي سيكون موجوداً هو أنني سأكتسب نضج الأربعين وسأستطيع التعامل مع الأشياء بحكمة.

ليست لدي أحلام ثابتة أسعى إلى تحقيقها، أو طموحات أبذل من أجلها عظيم الجهد، أحب الكتب والأناقة والسينما والحب، وأعيش حياتي من أجل المتعة فقط. محاطةٌ بلفيف من الأصدقاء الرائعين الذين سيسافر معظمهم قريباً، بالتأكيد سأحزن كثيراً لفراقهم، لكنهم سيعملون بالخارج وسيكون مدخولهم المادي جيداً، وقد يستقر أحدهم في إيطاليا ويرسل لي دعوةً لزيارته هناك فأقضي صيفاً رائعاً بين أعمدة روما.

مدونة من سورية
هزار مخايل
مدونة سورية... خريجة كلية الآداب قسم اللغة العربية.نشرت رواية مطبوعة بعنوان (رقص حتى الاحتراق). وحاليا أكتب مقالات في بعض المنصات الإلكترونية وأعمل على روايتي الجديدة