قرأت لك: "ابدأ بـ لماذا" (1)

قرأت لك: "ابدأ بـ لماذا" (1)

18 يناير 2021
+ الخط -

في سورة الكهف، تطالعنا قصة نبي الله موسى مع العبد الصالح (الخضر)، وفيها يوجّه النبي ثلاثة أسئلة للخضر، كلها عن السبب والباعث المحرّك للتصرف؛ في خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار، وإذا عُرِف السبب اطمأن القلب وسلّم بالحكمة وأمسك عن الاحتجاج والممانعة.

لمعرفة السبب يتعين عليك أن تفتِّش في الدفاتر القديمة، أن تنبش الماضي، أن تصل إلى جذور المسألة، وإن استطعت أن تراقب البذرة من الأساس فَبِها ونعمت. انظر مثلًا إلى الخضر، وهو يسوق الأسباب للكليم -عليه السلام- يشير إلى الفعل الماضي في الحالات الثلاث؛ فالملك (كان) ظالمًا، والغلام (كان) أبواه مؤمنيْن، والجدار لغلامين (كان) أبوهما صالحًا.

والترتيب الصحيح للتعاطي مع الأمور يبدأ من السبب، ولذلك قال البُحتريّ الفَطِن (إذا ما الجُرْحُ رُمَّ على فسادٍ/ تبيَّنَ فيه تفرطُ الطبيبِ)؛ فعدم الوصول إلى السبب يقدح في صحة الخطوات اللاحقة، ويطعن في نجاح العلاجات المقدّمة تباعًا، وهذا ما يؤكده أبو عُبادة في البيتين الموالييْن (رَزِيةُ هالِكٍ جلبتْ رزايا/ وخَطْبٌ بات يكشِفُ عن خُطُوبِ/ يُشَقُّ الجيبُ ثم يَجِيءُ أمرٌ/ يُصغَّرُ فيه تشقيقُ الجيوبِ).

فهم السبب ليس الجزء الأصعب، إنما الالتزام بالسبب والإخلاص له هما التحدي الأكبر

والإنسان يبحث عن السبب دائمًا، مولعٌ بسبر أغوار الأشياء، يطرب لمعرفة أسباب وجودها- فضلًا عن آلية عملها (الكيفية)- لكنه قد يتغاضى عنه من وقتٍ لآخر، وقد ييأس من ذلك ويزهد في معرفة الأسباب والدوافع والحيثيات، ويترك الحبل على الغارب، هنا يبدأ التخبط والاضطراب والضياع.

ثمة بوصلة للتمييز بين الأفراد والشركات والمؤسسات اعتمادًا على السبب، أو الدافع، فمن يضع السبب جِلدة ما بين عينيه- مثلما اتخذ عبد الملك بن مروان من الحجاج بن يوسف الثقفي- لا يفقد الهدف الذي يرجوه، قد يحيد عنه قليلًا، لكنه على الطريق، وقد يضطرب ثم يفيق من سكرته ليضبط نفسه وفق الدافع الرئيس والغاية التي يدندن حولها.

هذا باختصار مغزى كتاب سيمون سينك "ابدأ بـ لماذا"، وللكتاب سبب تأليف، ولك أن تعجب من أن المؤلف يستهلك 258 صفحة من أصل 276 صفحة (الصفحات الفعلية للكتاب من دون الملاحظات والفهرس)، قبل أن يكشف لنا سبب تأليفه الكتاب، أو لماذا ألَّف الكتاب؟ في حين أنك تجد القدامى يضعون بواعث التأليف ضمن مقدمات كتبهم، ومن ثم فإن المنظِّر للبدء بلماذا خالفها، ولنا أن نسأل "لماذا يا سيد سينك؟ وهل باب النجار مخلّع؟".

ينقسم الكتاب إلى ستة أجزاء، يتفرع عنها 14 فصلًا متباينة الأحجام، منها فصول تقع في ثلاث صفحات (الأول والتاسع)، في حين يقع الفصل الأخير في صفحتين. يحشد الكتاب قدرًا كبيرًا يبعث على الملل أحيانًا من الأمثلة، من بينها أمثلة- أو إشارة إليها- تكاد تحضر في كل صفحة، وكان من الممكن اختصاره إلى الثلث دون الإخلال بالمحتوى المنشور بين دفتيه.

لا يعني على الإطلاق أنه عديم القيمة، بل إن القيمة المضافة مبثوثة فيه، لا سيَّما في بعض المواد المذكورة تحت مصطلحات مثل "الدائرة الذهبية"، "قانون الانتشار"، "اختبار الكرفس"، "الصندوق الأزرق"، وإن كانت الدائرة الذهبية (الفصل الثالث) هي الركيزة الأساسية في هذا الكتاب. يُحسب لسينك أنه لم يتبجّح بادعاء ابتكاره لمفهوم الدائرة الذهبية، وإنما قال إن الفكرة جاءته من "النسبة الذهبية"، والمعروفة منذ القدم في فنون النحت والهندسة وشتى الفنون منذ القدم.

يدور الكتاب في فلك تحديد السبب قبل غيره، وأن معرفة لماذا تؤدي هذا العمل تساعدك في تحقيق الغاية المرجوة، وتجنبك إضاعة الوقت والتعب البدني والنفسي، وتصل بك إلى حيث تخطط، والبدء بتوضيح لماذا "لا يساعدك فقط على معرفة النصيحة الملائمة لكي تتبعها، لكنه أيضًا يساعدك على معرفة أي القرارات سوف يبعدك عن التوازن".

قبل أن يخوض سينك في الدائرة الذهبية، كان عليه أن يوضح المشاكل التي يواجهها كثيرون، وذلك لتعظيم قيمة (لماذا)، وترغيبهم فيها بشكل غير مباشر، وتهيئتهم نفسيًّا للدخول معه في عوالم لماذا/الدافع الذي يدوزن على وتره. يضرب مثالًا لفلسفة صناعة باب السيارة؛ ففي أميركا يحتاج العمال في نهاية خط الإنتاج إلى مطرقة مطاطية، يطرقون بها أطراق الباب، لضمان أنه مناسب تمامًا لمكانه، بينما في اليابان يحدث أمر مغاير، إذ يحرص اليابانيون- منذ البداية- على التأكد من مناسبة الباب -عند تصميمه- لمكانه في السيارة، ما يعفيهم عبء المطرقة وإن كانت مطاطية.

معرفة لماذا تفعل شيئًا ما ليست من قبيل الطلاسم أو اللوغاريتمات، قد يتضح السبب في دواخلك، وفهم السبب ليس الجزء الأصعب، إنما الالتزام بالسبب والإخلاص له هما التحدي الأكبر، ويكمن تحدٍّ جديد يتضخم إذا ما كنت قائدًا؛ فأنت تعرف لماذا بدأت هذا العمل، وتسير فيه بخطًى ثابتة وتحقق نتائج مذهلة، لكن هذه القفزات الاستثنائية قد تتلاشى مع تقاعدك أو رحيلك.

ربما لم تنقل لمن حولك هذه الأسباب على نحوٍ جلي، أو لأنك عجزت عن شرحها للآخرين على النحو الذي ينبغي، والعهدة في ذلك على الفص الحوفي في المخ، والمختص بالأحاسيس والشعور، والذي لا ينجح في ترجمة الحدس إلى كلمات، ما يستدعي التنسيق والتوافق بين الثلاثي المرح (لماذا/ كيف/ ماذا).

يسوق سينك عددًا من الحالات، وفيها يتبدى لك كيف تناغمت أو انحرفت بوصلة شركات ومؤسسات كبرى، ما بين شركات نجح مؤسسوها في نقل جذوة الدافع مشفوعًا بالحماس للقائد التالي، مثلها فعل هيرب كيلهر مع خلفه هوارد بوتنام في شركة ساوث ويست للطيران.

يدلِّل كذلك على سلوك شركات ابتعدت عن الدافع الأصلي لتأسيسها، هذا ما أزعج هوارد شولتز في ستاربكس، وأثناه عن التقاعد وترك القيادة لخلفه جيم دونالد؛ فعاد ليتسلّم مقاليد الأمور ويعيدها سيرتها الأولى. يقارن في ذلك بين عددٍ من الرواد الأوائل وخلفائهم في المناصب؛ فيقارن بين بيل غيتس وستيف بالمر (ميكروسوفت)، ستيف جوبز وخلفه تيم كوك (أبل)، مايكل ديل وكيفن رولر (ديل).

في الجزء الثاني، نتعرف إلى الدائرة الذهبية، وكيف يتفاعل المخ البشري معها، وسبل تطبيقها في الحياة الشخصية والعملية، وفق ما أورده سينك في كتابه.