مكّة... مدينة الطوباوية الرأسمالية المقدَّسة

مكّة... مدينة الطوباوية الرأسمالية المقدَّسة

03 ديسمبر 2020
صورة جوية للمسجد الحرام في مكة و"أبراج البيت" على مقربة منه (getty)
+ الخط -

مكّة مدينة لا كغيرها من المدن. أولى مدن الإسلام المقدّسة وأهمّها، وقبلة صلوات المسلمين على مر العصور. تُشدّ إليها الرحال من كل فج عميق ويزورها كل سنة ملايين المسلمين ساعين لاستكمال دينهم والتزوّد منها بعبق روحاني يعينهم على مواصلة الحياة والتهيّؤ لما بعدها. لا تشابهها في ذلك سوى بعض المدن المقدَّسة الأخرى في العالم؛ كالقدس وروما وبنارس وسان جوان دي كومبستللو، التي يحج إليها مؤمنوها ويتكبّدون لأجل ذلك مصاعب الطريق ووعثاء السفر.

ولكنّ مكّة تزيد عليهم في أنّ الحج إليها فريضة على كل مسلم ومسلمة إن استطاعا إلى ذلك سبيلاً، ممّا يعني تعاظُم التدفّق إليها في موسم الحج مقارنةً مع غيرها من المدن المقدّسة وتطاوُله على مدى العام في زيارات المعتمرين. وقد تراكم فيها على مدى الخمسة عشر قرناً من تاريخ الإسلام ذكريات كثيرة، ابتداءً من أصولها ما قبل التاريخية من إعادة بناء البيت على أيدي إبراهيم وإسماعيل، ثم الحدث الأعظم من ولادة النبي محمد وترعرعه فيها، وولادة رسالته واشتداد عودها فيها، وعودته إليها ظافراً وفاتحاً عند اكتمال رسالته، مروراً بما خلّفه فيها الملايين من المقيمين والزائرين والمجاورين من عامّة المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، وما بناه الحكّام الطامعون بتخليد أسمائهم فيها، وانتهاءً بمشاريع التوسُّع العملاقة التي طوّقتها من كل حدب وأزالت الكثير من معالمها القديمة في نصف القرن الماضي، ثمّ في السنوات العشرين الأخيرة.

مشاريع التوسُّع هذه، على الرغم من أهميتها الفائقة، من المواضيع التي لم تُناقَش بما فيه الكفاية في الدراسات المعاصرة. هذا لا يعني أن الصحافة لم تغط هذه المشاريع العملاقة، أو أن الأدبيات المهنية من هندسة وعمارة وإدارة وتمويل لم تدرسها. فهناك العديد من المقالات الصحافية والبحوث العلمية التي وصفتها وحلّلتها. هذه الدراسات كلُّها تلاحظ ضخامة مشاريع التوسُّع هذه وشموليتها وتعقيدها وارتفاع كلفتها الفلكية؛ إذ إنّ الدولة السعودية قد آلت على نفسها تأمين الحج بكل خدماته ومتطلباته، والتوسُّع في ذلك مع توسُّع عدد الحجاج وبلوغهم أرقاماً هائلة، كلهم يريد سقفاً وطعاماً وصحة وأماناً وسهولة في التنقل لأداء شعائر الحج في المدينة وحولها.

ولكنَّ هذه الأدبيات، على كثرتها، نادراً ما تتطرّق إلى ما هو أبعد من القبول بضرورة التوسّع، على الرغم من تكاليفه الباهظة مادياً وعمرانياً ومعنوياً واجتماعياً، أو إلى التساؤل عمّا إذا كانت مشاريع التوسُّع هذه ضرورية أصلاً أو أنها تتقيّد بمعايير احترام قدسية المدينة وثرائها المتنوّع بالذكريات الإسلامية المتراكمة. أي أن النقد، بمعناه المعرفي الواسع، غائب أو شبه غائب عن دراسات مشاريع التوسُّع العملاقة في مكّة.

لم تعُد المدينةَ المتميّزة التي كانتها منذ ظهور الإسلام

لهذا أسباب عديدة؛ أولها هو غياب النقد البنّاء عموماً في الفكر العربي المعاصر، من جملة ما يغيب من الأدوات المعرفية الحديثة. وهناك أيضاً أسباب أكثر مباشرةً بعضها يتعلّق بشحّ الدراسات النقدية المعمارية والعمرانية في اللغة العربية مقارنةً مثلاً بالنقد الأدبي أو الشعري. ولكن السبب الأكثر أهمية هو السعي الدؤوب للسلطات والمستثمرين في مكّة لإسكات أي محاولة لنقد هذه المشاريع النيوليبرالية الرابحة في المدينة المقدَّسة وتصويره على أنه نكران لفضل السلطات في تيسير الحج وسهرها الدائم على توفير ما يحتاجه الحجيج.

ولكنَّ النقد الأهم، برأيي، هو ذلك التي يتجاوز حدود المدينة وحدود ذكرياتها وقدسيتها لكي يقدّم رؤيةً متكاملةً لظاهرة أوسع من المدينة المقدّسة، ألا وهي ظاهرة المدينة الخليجية المعاصرة التي اقترح مايك ديفيس، العمراني الأميركي البارز، لها اسم مدينة الطوباوية الرأسمالية؛ فمشاريع التوسعة الهائلة في مكّة المعاصرة جعلتها أقرب إلى أن تكون واحدة من هذه المدن الخليجية من أن تكون المدينة المقدّسة المتفرّدة والمتميّزة التي كانتها منذ ظهور الإسلام وحتى الماضي القريب. 

هذه المدن الخليجية التي كانت تنام وادعة على شواطئ لازوردية هادئة أو في طيات صحارى ذهبية شاسعة حتى جيل مضى تُبنى اليوم بوتيرة هائلة وتتوسّع أفقياً وشاقولياً بسرعة خيالية. ولا يقتصر الأمر على دبي التي أصبحت رمزاً للانفلاش العمراني والمبالغة الاستهلاكية الهائلة، بل يتعدّاه لكلّ مدن الكويت وقطر والإمارات والبحرين وعُمان، وحتى غالبية المدن الكبرى في السعودية. كلّها منغمسة في عملية يمكن أن نسمّيها، نسبةً إلى دبي مدينةِ منشئها، بـ "الدبْيَنة"، وإن كانت كلٌّ منها تفتّش لنفسها عن صورة خاصّة أو وظيفة مغايرة تميّزها وتُعطيها شيئاً من التفرُّد في حلبة منافسة حادّة على استقطاب رؤوس الأموال وشركات الإنشاء والتسويق والتشغيل، وفي النهاية المؤسّسات والأفراد الذين سيدفعون ثمن تلك العمارة ويستخدمونها.

تعمل السلطات والمستثمرون على إسكات أي نقد لهذه المشاريع

لكن هذه الطفرة في الخليج ما هي في الحقيقة إلا طفرة صورةٍ أكثر منها طفرة واقع كاملة متكاملة؛ فهي قد تجاوزت الحداثة من دون أن تمرّ بها وقفزت مباشرةً إلى ما بعد-حداثة الرأسمالية المتأخّرة، معربشةً على ثقافة الاستهلاك والاستثمار: طرفَي الدائرة الاقتصادية النيورأسمالية الشرسّين. والخليج، على ما يبدو من خلال تسابُق دوله على اعتناق هذه الصورة، قد نجح في أن يكون معاصراً بالمعنى الرأسمالي العولمي للكلمة، أي الحاوي والمحتوي لمفاهيم السوق والاستثمار والاستهلاك، بغضّ النظر عمّا اضطرّ لتجاوزه من دون أن يجرّبه من مراحل النمو الصناعي والمعرفي والتقدُّم العلمي والاجتماعي والتكنولوجي وما إليها من المفاهيم التي تُشكّل أركان ما نسمَيه بالحداثة.

ممّا زاد الطين بلّةً في حالة مكّة هو البُعد المقدَّس للمدينة والدَّور الخاصُّ جدّاً التي تلعبه في أفئدة المسلمين؛ فبالإضافة إلى طغيان اقتصاد السوق على مشاريع التوسعة والبناء والتسويق فيها وجرفها لكل ما هو أمامها من مبان تاريخية وأجواء روحانية تميّزت بها المدينة، فقد تسبّبت هذه الاندفاعة الاستثمارية الشرسة في انفصام معرفي وثقافي واجتماعي هائل ناجم عن التعارض الواضح والشديد ما بين مبادئ السوق النيوليبرالية والأسس الروحانية والزهدية لمناسك الحج ومراميه ولمعنى مكّة الإسلامي التعبُّدي الشامل. 

نحن اليوم أمام نموذج جديد من المستهلك: المستهلك للمقدَّس، الذي تغريه شركات الاستثمار بالاستهلاك عن طريق تلاعبها، ليس فقط برغبته في الراحة والانشراح والمتعة كما تفعل عادةً، بل أيضاً باستهلاك البعد الروحاني للمدينة المقدّسة ذاتها عن طريق الصلاة في غرفة مكيفة مطلّة على الحرم، مثلاً، من دون الحاجة إلى تكبُّد عناء النزول والاختلاط بملايين المصلين الطائفين. هذا المستهلك هو، في الآن نفسه، الدافع الأساس لتغوُّل العمارة في المدينة المقدّسة وخط الدفاع الأول في محاولة استعادة البعد الإنساني لقدسيتها. من هنا يجب على العمارة أن تلعب دوراً جديداً في تثقيف وتوجيه هذا المستهلك على الرغم من إغراء الطوباوية الرأسمالية المقدّسة. وإلا فستكون مكّة المدينةُ ومكّة الذاكرةُ الجمعية الإسلامية ومكّة منبعُ الروحانية والقداسة في الإسلام الخاسرَ الأكبر.


* مؤرّخ معماري مقيم في الولايات المتحدة

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون