سيرة العقل والجنون (10)

سيرة العقل والجنون (10)

02 ديسمبر 2020
+ الخط -

استكمالاً لسلسلة للحكايات التي رويناها في سهراتنا السابقة عن الفتى "فريد ابن أبو خلو" الذي سجله أبوه في الصف الأول الابتدائي، قلت إن مدير المدرسة الأستاذ علاء، المتحمس لبقاء فريد في المدرسة، عمل على سد الذرائع عندما اشترى لفريد حذاء جلدياً (صباط) وركب له نعلاً إسفنجياً لئلا يُصدر صوتاً أثناء المشي فينزعج منه معلم الصف الأستاذ عبد الله وكذلك التلاميذ. وقد تابع علاء اهتمامه بالموضوع، فزار الصف الأول، واستمع لشكاوى التلاميذ من زميلهم فريد.

قال التلميذ "مجدي" إن المعلم أجلسه بجوار فريد، ولأن حجم فريد كبير (إكسترا)، صار يُرخي بدنه عليه أثناء الدرس، ويكاد أن يخنقه، وفي مرحلة الجاروخ المشؤومة، كان فريد يشلح جاروخه أثناء الدرس، وبين الحين والآخر يدوس على قدمه بشكل مقصود، فيسبب له ألماً قوياً.. وقد اضطر أمجد لأن يخبر والده معاناته، فغضب والده، وذهب إلى الأستاذ عبد الله في منزله، وطلب منه أن يغير مكان جلوسه في الصف، ففعل.

تدخل الأستاذ عبد الله قائلاً: المشكلة ما هي مشكلة مجدي يا أستاذ علاء. نحن بالعادة منحط كل تلات تلاميذ في مقعد، بس هلق شوفة عينك، تاركين فريد في مقعد لحاله، وحاطّين كل أربع تلاميذ في مقعد واحد!

رفع التلميذ عبد الحميد يده طالباً الإذن بالكلام.

علاء: تفضل يا إبني، إحكي.

عبد الحميد: يا أستاذ رفيقنا فريد مشاغب وغدار، أنا كنت قاعد جنبه، بعدين انتقلت.. بيكون الأستاذ عبد الله داير ظهره وعم يكتب ع اللوح، بيصير فريد بيقلد صوت الدبّانة، وبيوهمنا إنه الدبانة جاية تقرصه في خده، بيضربها بالمقلوب، ومرة عمل هالحركة قام نزل كفه على وجهي، لما ضربني صارت إدني تصفّر، بعدين أبوي أخدني ع الدكتور، وعاينني وكتب لي قطرة لحتى مشي الحال.

زفر عبد الله زفرة طويلة وقال: يا أستاذ علاء، أنت إنسان طيب، وآدمي، ومحترم، وكل الناس في المدرسة والحارة والبلد بيشهدوا فيك.. بس بصراحة عندك بشخصيتك مشكلة ما كان حدا متوقعها

 

التلميذ فاضل: بتسمح لي أحكي أستاذ؟

علاء: تفضل.

فاضل: مرة أجا فريد ع الصف وجايب معه سنبلة قمح خضرا، غافلني ومد إيده على رقبتي، ودحشها تحت قميصي، صارت تشوّكني، وأنا مديت إيدي لأطالعها، صارت تنزل لتحت، وما حسنت طالعها لحتى شلحت القميص، وكان الطقس بارد كتير، وفريد كان شايل قنينة فيها مَي، رشقها عليّ، وصاروا تيابي مبللين بالمي الباردة، وأخدت إذن من الأستاذ عبد الله ورحت ع البيت، وعلى أثر هالمزحة الغليظة صار معي مرض تيفوئيد.

علاء: طيب يا إبني. تفضل استريح..

وطلب من معلم الصف، الأستاذ عبد الله، أن يمر به في الإدارة بعد الانصراف، ففعل، وعقد الاثنان اجتماعاً مغلقاً، أوضح فيه عبد الله أنه مستعد أن يتحمل غلاظات فريد كلها فيما لو كان ثمة أمل في أن يتعلم شيئاً مفيداً. والدليل على ذلك ما جرى خلال درس "الأناشيد".

علاء (وهو يخفي ابتسامة ارتسمت على وجهه): هههه، وأيش صار بدرس الأناشيد؟

عبد الله: كان عنوان الدرس "بلبل في قفص". متلما بتعرف أنا شاطر في الرسم، دخلت ع الصف في الفرصة قبلما يدخلوا التلاميذ، وجبت طباشير ملون، ورسمت على السبورة قفص وبداخله بلبل. ولما بدي الدرس، لاحظت إنه فريد مشغول بشي تاني. كان ملتفت ع الشباك وعم يحكي بالإشارات مع شخص وهمي، والتلاميذ عم يلاحقوا الشخص الوهمي بالنظر، وكأنهم مصدقين إنه في حدا عم يحكي معه، المهم أنا صحت فيهم، سكتوا وبطلوا يتابعوا. ولما سألته: أشو عم تعمل يا فريد؟ قال لي: ما في شي أستاذ كان في دبانة، خفت توقف ع رقبتك وتقرصك، خليتها تطلع من الشباك.

علاء: برأيك أستاذ عبد الله؛ هادا جنون ولا نوع من الملعنة؟

عبد الله: إنت عم تبسط الأمور يا أستاذ علاء، في نظرك الحالة إما جنون أو ملعنة. أنا برأيي إنه فريد عنده جنون، وهبال، وقلة وجدان، وحقارة، وثرثرة، وخبث، وملعنة، وتفاهة، وندالة، وشراسة، وعنده متلما بيقولوا أهل السياسية "نزعة ديكتاتورية"! الله يستر الناس والعباد إذا فريد بيستلم في الأيام منصب سياسي. يا زلمة هادا مجرم من الطراز الرفيع.

علاء: طيب أستاذ، وأيش صار في درس البلبل والقفص؟

عبد الله: بعدما سكتوا التلاميذ، قلت له تعال يا فريد، وقف قدام السبورة. طلع. قلت للتلاميذ هلق راح نعمل تجربة. بدنا نفترض إن زميلكم فريد الخلو معلم الصف، وأنا راح أقعد بيناتكم، وخلي فريد يشرح لنا الدرس. ويا ريتك كنت موجود معنا يا أستاذ علاء وتتفرج على هالدرس. فعلاً أنا أخدت من فريد درس ما بنساه في حياتي..

علاء: شوقتني أعرف أيش صار.

عبد الله: فريد حط إيده فوق القفص والبلبل وقال للطلاب: اسمعوا ولاك، انتهبوا منيح لأن درسنا اليوم صعب كتير. عنوان الدرس هو الزنبيل والمجرفة! هون، متلمانكم شايفين زنبيل كبير، بس فاضي، ما في جواته غير هالمجرفة، وحط إيده ع البلبل. وقال إن المجرفة بتحب الحرية، عم تستنى لحتى صاحب الزنبيل يفتح لها الباب وتطير وتعلي. ولما بتطلع وبتطير بتلاقي مجاريف كتار طايرات في السما، بتطير معهن، لأن الكل بيحبوا الحرية. وأشر للتلميذ عبد العزيز وقال له: تعال يا عبد العزيز، وقف هون. طلع عبد العزيز وهو مرعوب، قال له (أشو بدك يا فريد؟)، فضحك فريد وقال للتلاميذ: رفيقكم عبد العزيز طشنة، ما بيفهم، بيقول للأستاذ يا فريد. بتعرف أيش عقوبتها هاي؟ ورفع إيده، بده يضرب عبد العزيز وأنا ركضت ومسكت إيده، وقلت له: وقف. الله لا يوفقك.

وطردته بره الصف.

وزفر عبد الله زفرة طويلة وقال: يا أستاذ علاء، أنت إنسان طيب، وآدمي، ومحترم، وكل الناس في المدرسة والحارة والبلد بيشهدوا فيك.. بس بصراحة عندك بشخصيتك مشكلة ما كان حدا متوقعها.

علاء: مشكلة؟

عبد الله: نعم، مشكلة طويلة وعريضة، وشائكة، ومعقدة، وعويصة، ممكن نلخصها بكلمة واحدة هي: فريد! إذا بتتخلص من هالمشكلة راح ترجع بنظرنا الأستاذ علاء اللي منعرفه!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...