البرامج التونسية: بين الترفيه والعنف

البرامج التونسية: بين الترفيه والعنف

25 نوفمبر 2020
انتقادات تطاول مضمون البرامج ومحلليها (Getty)
+ الخط -

فاجأ وزير الداخلية في الحكومة التونسية، توفيق شرف الدين، الأسبوع الماضي، المتابعين للشأن التونسي، بقوله في تصريح إعلامي إنّ "المنوعات التلفزيونية ساهمت في ارتفاع منسوب العنف المادي واللفظي في المجتمع التونسي". خلّف التصريح تساؤلات حول ماهيّة هذه المنوعات التي تبث خصوصاً على القنوات الخاصة، مثل برامج "عندي مانقلك" و"الحق معاك" و"لاباس" و"فكرة سامي الفهري" و"نهار الأحد ما يهم فيه حد" و"jeu dit tout" وهي برامج تبث أساساً على قناتي "الحوار التونسي" و"التاسعة" الخاصتين اللتين تتنافسان على جلب أكبر عدد من المشاهدين، وبالتالي المعلنين التجاريين. "العربي الجديد" بحثت في تأثير هذه المنوعات التلفزيونية على المشاهد التونسي من خلال الاطلاع على رأي الجمهور ورأي المختصين.

ترى عبير عبد الخالق، وهي واحدة من المتابعات للمنوعات التلفزيونية التونسية، في هذه البرامج "وسيلة للترفيه، فهذه المنوعات رغم ما فيها من نقائص إلا أنها تساهم في الترفيه على التونسي في هذا الظرف الصحي الصعب الذي نمر به. ورغم أنني لا أتابع كل المنوعات، لكنني مع ذلك أتابع أهم ما يرد فيها من خلال بعض الفيديوهات على يوتيوب". أما هدى المنصوري فتقول: "أتابع هذه المنوعات، لكنني أجد حرجاً في بعض الأحيان في متابعتها مع أبنائي، فهناك تجاوزات كثيرة من قبيل الصراخ والتفوه ببعض الكلمات البذيئة والقيام بحركات غريبة، لكنني لا أنكر أنني أتابعها بحثاً عن الترفيه، خاصةً أمام عجز التلفزيون التونسي عن تقديم منوعات أكثر اتزاناً وقدرةً على شدّ المشاهد مثل القنوات الخاصة".

ويذهب المختصّون في تحليل هذه الظاهرة التلفزيونية إلى قراءات مختلفة، لكنّها تشترك في الإجماع على ضعف مستواها. إذ يقول عضو مجلس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، هشام السنوسي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "المنوعات التلفزيونية في تقديري نوع تلفزيوني ضروري في البرامج التلفزيونية، لأنه يقوم بواحد من أدوار وسائل الإعلام السمعية البصرية وهو الترفيه. لكن المشكل في المضمون الذي يتمّ تقديمه، فقد أصبح يميل أكثر إلى ما يعرف بتلفزيون الواقع، وهو تلفزيون يتناول المسائل الاجتماعية بشكلٍ لا يعتمد الدراسة العلمية للظواهر، بل يبحث عن الإثارة بغاية تحقيق نسب مشاهدة عالية على حساب المضمون الذي يتم إنتاجه".

وعن دور الهايكا كهيئة تعديلية في هذا المشهد التلفزيوني، يؤكد السنوسي "نحن (الهايكا) نسلّط عقوبات على كل المخالفين. ويكفي أن أذكر أن 90 بالمائة من العقوبات التي تمّ تسليطها على القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية كانت بسبب انحرافات في هذه المنوعات التلفزيونية، لكنّ هذا غير كافٍ". وعن سبب عدم كفاية هذه العقوبات لتعديل المشهد التلفزيوني، يقول السنوسي "نحن نفتقد لما يسمّى التعديل المشترك، وهو ما يعني أن الحكومة قبل أن تصدر مثل تصريح لوزير الداخلية حول مساهمة المنوعات التلفزيونية في رفع منسوب العنف المادي واللفظي في المجتمع التونسي، كان من المفترض الاستنارة برأي "الهايكا"، لأنها الوحيدة التي تمتلك المعطيات الحقيقية عن المشهد السمعي البصري في تونس. لكنّ الحكومة الحالية تعيش حالة قطيعة مع "الهايكا"، لأن الحزام السياسي الداعم لهذه الحكومة في قطيعة مع الهايكا هو الآخر".

من جانبه، يوصّف الخبير والإعلامي السابق في قناة "بي بي سي"، ماهر عبد الرحمن، ما يقدّم حالياً بما يسميه "تلفزيون القمامة وليس تلفزيون الواقع". ويقول، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "أسباباً عدّة تقف وراء ظاهرة تردي مستوى المنوعات التلفزيونية التونسية. في تقديري إشكال التلفزيونات الخاصة في تونس أنها تعمل كلّها بميزانيات محدودة جداً، نظراً لانحسار سوق الإعلانات التجارية، لذلك تركّز هذه القنوات على ما يسمّى "الإنتاج السهل" داخل الاستديوهات، وهو ما لا يكلّف هذه القنوات أموالاً كثيرة، مع السعي لاستخدام الإثارة أكثر ما يمكن لجذب نسبة متابعة من الجمهور". ويضيف "لكن الإنتاج داخل الاستديوهات أفلس في كل أفكاره، حتى اضطر أصحاب هذه القنوات إلى مزيد من الإثارة، وهو ما أسقط برامجها في العنف اللفظي بقصد الإضحاك أو إثارة النعرات السياسية بين الضيوف لدفعهم إلى الخصام أمام الكاميرات، والاعتداء على الحريات الشخصية، من خلال البحث في الحياة الخاصة لمشاهير الفن".

ويرى عبد الرحمن أنّ العنف تجاوز كل الحدود المعقولة "لقد وصل العنف إلى حدّ الاعتداء الجسدي من خلال "مقالب" يقوم بها بعض المقدمين للضيوف أو العكس، وصلت إلى حدّ تبادل الصفعات، وهو ما أثار غضب من شارك فيها. وهذا الأمر خطير جدا في مجتمع يعيش حالة من القلق النفسي العميق ويبحث عن ذاته في خضم الصعوبات السياسية والاقتصادية التي تعيشها تونس. وهنا كان من المفترض أن يقوم الإعلام بدور المساعد للمجتمع على تجاوز أزمته وينير له الطريق ولا يقوم كما الحال الآن بالعبث به". وعن مخاطر ذلك، يقول "الخطورة تكمن في أن الأطفال والشباب يتخذون من برامج التلفزيون قدوةً في التصرف، إلى حدّ انتشار المخدرات مثلاً في أوساط الشباب، تزامناً مع بث مسلسلات ومنوعات يكثر فيها الحديث عن المخدرات بحجّة كشف ما هو مستور. لكنّ هذا الكشف لم يكن يصب في خانة المعالجة الإعلامية لهذه الظاهرة بقدر ما أظهرها أنها حالة طبيعية جداً لتجاوز المشاكل، لهذا فإنّ الأمر خطير، ولم نعد نتحدث عن تلفزيون الواقع ولا تلفزيون إثارة بل تلفزيون قمامة".

إعلام وحريات
التحديثات الحية

وترى الإعلامية ومقدمة البرامج التلفزيونية السابقة جيهان الخوني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "هذه المنوعات والبرامج تعكس على ما أعتقد التحولات التي يعيشها المجتمع التونسي وإرهاصات الواقع والبحث عن نسب مشاهدة عالية خارج كل الضوابط الأخلاقية والقيمية". وعن أهم أسباب تردي ما يقدَّم اليوم من منوعات تلفزيونية، فترى أنّ "المشكلة الأساسية لهذه المنوعات أنها تتكاثر بسرعة، فلا تكاد تخلو منها قناة تلفزيونية مهما كان الخط التحريري الذي تتبعه، إن كان لها خط تحريري أصلاً. كما أنّ هذه المنوعات تعتمد نفس الشكل، حيث يجتمع مجموعة من الكرونيكورات (محللين) جلّهم من غير الإعلاميين حول طاولة للحديث في الشأن العام وخلق نوع من الإثارة والبحث عن نسب مشاهدة ومعلنين تجاريين من دون إيلاء كبير اهتمام بالمضامين المقدمة. ما يهم فقط هو الإثارة وشد المشاهدين". وعن دور المشاهد في ذلك، تجيب الخوني: "أحياناً أرى أن المشاهد بقدر نقده لهذه البرامج، بقدر إقباله على مشاهدتها، باعتبارها متنفساً لضغوط الحياة اليومية. لكنّ ما يزعجني فعلاً ليس "جعل الأغبياء مشاهير وقادة رأي"، لكن خطورة الرسائل التي يتمّ بثها من خلال هؤلاء "الأغبياء" في ما يتعلق بحقوق المرأة وترذيلها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهو أمر خطير، خصوصاً إذا تمّ تسليع القيم وحقوق المرأة من أجل شدّ أكبر عدد من المشاهدين".

المنوعات التلفزيونية في مرمى النقد، لكنّها مع ذلك تتمتع بنسب مشاهدة عالية، وهو ما يضع التلفزيون الرسمي التونسي في وضع حرج، خصوصاً أنّه المطالب بإنتاج برامج بديلة تكون قادرة على الجمع بين الترفيه والتثقيف وشد المشاهد الذي يمول هذا التلفزيون من خلال الضرائب التي يدفعها.

المساهمون