"خوف" بلغاري ينقضه الحبّ: سخرية مجبولةٌ بالسوداوية

"خوف" بلغاري ينقضه الحبّ: سخرية مجبولةٌ بالسوداوية

23 نوفمبر 2020
"خوف": سخرية سوريالية عن راهنٍ قاسٍ (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

يعتصر البلغاري إيفايلو خريستوف (1955) آخر القطرات المتبقية من المعنى الكامن لعبارة "الخوف من الآخر"، ويحيلها إلى نصّ سينمائي مستفِّز، وينثرها على الشاشة بالأسود والأبيض، موزّعاً البطولة بين رجل أسود غريب وامرأة بيضاء بلغارية، وموغلاً في مكاشفة صريحة مع الذات، يعطيها عنواناً مُشعّاً بالمعنى: "خوف" (2020). خوفٌ من المختلف يترسّب في ذاتِ البلغاريّ، ولا بدّ من عرضه أمام عينيه.

يختار خريستوف، الفنان مُتعدّد المواهب (كاتبٌ ومسرحيّ وممثلٌ ومخرجٌ سينمائي) السخرية، المجبولة بسوداوية خفيفة، أسلوباً لعرض المشهد السينمائي لبلغاريا في عصر الهجرات العظيمة، والتحوّلات السياسية الناقصة، ما يُذَكِّر بأسلوب الصربي أمير كوستوريتزا، الذي يتّخذ غالباً من قرى في شرق أوروبا مسرحاً لسرد حكايات بسيطة وعميقة المعنى، يمتزج فيها السوريالي بالواقعي.

في المُنجز الأخير لإيفايلو خريستوف، الفائز بحائزة أفضل فيلم روائي بلغاري طويل في الدورة الـ38 (24 سبتمبر/ أيلول ـ 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان الوردة الذهبية"، يكون المكان قريةً حدودية بين تركيا وبلغاريا، تجعلها الأقدارُ ممرّاً لمُهاجرين عابرين إلى المجهول.

في ذلك المكان، المؤثَّث طبيعياً ومن بعض تدخّل بشري، تختلط الغابات والحقول، التي يُجمِّد البرد زرعها، بسكّانٍ قليلي العدد، كأنّهم ينبتون فيها على عجل، فيُقيمون لهم مدينة صغيرة تكاد تكفي لتوارث ما جُبلوا عليه من عادات وأفكار. يُوَرّط التاريخ سكانها بما لا يتحمّلون ثقله: الديمقراطية، والمجتمع المدني الجديد، والتوافق مع شروط رأسمالية لم تصلهم بعد. تُزيد الهجراتُ المارّة بهم التباسَ مواقفهم من الآخر العابر، وخوفهم منه، وتكشف أيضاً عن انكفائهم وعنصريّتهم.

يُعرّي "خوف" خوفاً داخلياً أكبر من الوصول المؤقّت للمهاجرين إلى قريتهم، تُجسّده المعلّمة الوحيدة في مدرسة القرية، سفيتلا (سفيتلانا يانشيفا)، التي أغلِقت أبوابها لقلّة الدارسين فيها، فأصبحت ـ بسبب الإغلاق ـ عاطلة عن العمل. مقاومتها للخنوع، وتدبير شؤونها لوحدها، يثيران حنقاً ذكورياً وغيرة أنثوية. ومع وصول الغريب الأسود بامبا (مايكل فليمنغ) إلى بيتها، يتكشّف الخوف من وجود كائن بينهم، لا يستجيب للشروط السائدة للتوافق.

يُسَخِّر خريستوف معارفه الفنية لتجسيد مخاوف قرية بلغارية صغيرة من امرأةٍ، اختلفت عن بقيةٍ. الكتابة السلسة والمبطّنة في نقد مجتمعيّ لاذع، تتجاوز القرية إلى بلغاريا كلّها. فيها مكاشفة غير مرغوبة (السيناريو لخريستوف نفسه). التصوير (ايميل كريستوف) رائع في تنقّله بين عراء خارجي وداخل ضيّق. الكاميرا تعرف كيف تنقل المشاعر الإنسانية المضطربة، التي يوصلها أداء تمثيلي يتوزّع على ممثلين يؤدّون أدواراً ثانوية، يُكمِل كلّ واحد منها المشهد المطلوب عرضه بتنويعاتِ مواقف وتصادمات.

 

 

فرادة النصّ تمنحه حيوية: ضابط وحدة مراقبة حدود سكّير لا يُبالي بمهمّته، المتمثّلة بإيصال مهاجرين، يتجاوزون حدود بلده، إلى مسؤولي البلدية، ليتكفّلوا هم بشؤونهم. جيران المعلّمة يراقبونها بفضول مَرضيّ. سياسي متنفِّذ يستغلّ موقعه للحصول على ما يريده منها، ومسؤولة إدارية لا تعرف ماذا تفعل بالواصلين إليها من "الطرف الثاني" من العالم. كلّ مشهد مرتبطٍ بعلاقة المهاجرين بالإدارة المحلية يثير سخرية وحنقاً على مجتمع لا يراعي حرمة الواصلين إليه، ولا يهتمّ بهم، بقدر ما يهمه تسريع عملية ترحليهم إلى بلدان رأسمالية، تنسى أنّ البلد اليوم يُعدّ إحداها.

تشتدّ المفارقة المُرّة باستنكاف "الغجر" (توصيف يتكرّر في أحاديث أهل القرية عنهم) عن المكوث عندهم. بفرزه الطبيب المهاجر من مالي عن البقية، ينقل إيفايلو خريستوف نصّه إلى موقعٍ، يغدو فيه المهاجرون وموضوعهم هامشاً، بينما تصير المعلّمة مركزاً وعلامة على اختلافٍ وتحدٍّ، يشيعان خوفاً في أوصال سكّان القرية، أكثر من أولئك العابرين في قريتهم نحو الغرب. لم يأتِ بامبو مع المجاميع المهاجرة. وجدته المعلّمة في غابة وحيداً، فدعته إلى منزلها، حيث تطوّرت علاقة إنسانية بينهما، تتجاوز الموقف المسبق من الغريب والخوف منه، توجزها عبارة لها: "تعبتُ وسئمتُ من الخوف". فيه، وجدتْ الإنسان الذي تشعر معه بالطمأنينة. هو يمنحها الحبّ الغائب عنها منذ وفاة زوجها.

يفجّر "خوف"، بسوية العلاقة بين الأبيض والأسود، منابع الخوف، ويمضي أكثر في السخرية من ردود الفعل ضدها، في مشهد سوريالي، تتقدّم فيه وحدة من "القوات الخاصة"، التابعة للجيش، لاقتحام منزلها البسيط. لا يكتفي "خوف" عند هذا الحد، موغلاً باستهزائه من واقع الغرب كلّه، بنقله مشهداً في ختامه، يُظهر المعلّمة والطبيب بومبا معاً في عربةٍ يجرّها حصان إلى الحدود، باتجاه أفريقيا. رحلة عكسية، يتخلّلها إحساس بغرائبية الأقدار، يتعزّز بظهور مفاجئ لبعير يمضي في الطريق نفسها نحو الغرب، وقد اكتسى المشهدُ ألواناً.

لم تعد هناك حاجة إلى إظهار حدّة التنافر (كونتراست) بالأسود والأبيض بعد اليوم. فاللونان في طريقهما إلى عالمٍ آخر، تتعدّد فيه الألوان والأشكال. أهذا مشهدٌ مستقبلي متخيّل، يتعارض مع واقع قاسٍ؟ ربما نعم. لكنّ إيفايلو خريستوف يريد إغاظة البلغاري بنهاية مقترحة، تعاكس خوفاً هشّاً ومتجذّراً فيه، لا يقوى على مواجهة الحبّ.

المساهمون