يبدو حميداً (1/3)

يبدو حميداً (1/3)

15 نوفمبر 2020
+ الخط -

الحمد لله. خرجت أمي بالسلامة من المستشفى.

أنا من قوم لا يقولون لأمهاتهم: "يا ماما". أُحب أن أناديها "يا أمي"، ليس هناك أسباب لذلك تتعلق بالحفاظ على اللغة العربية، ولكن لأنني أشعر أن أمي لا تليق عليها كلمة "يا امّه"، وأنا لا تليق عليّ كلمة "يا ماما"، هي أيضًا أصغر من أن أعتمد لقب "حاجّة" مع أن ذلك يسعدها جدًّا فهي "حاجّة بيت الله من زمان"؛ على حد تعبيرها الذي تباهي به الأمم، بالطبع لسنا أبطالًا في مسلسل تاريخي لكي أناديها "يا أمّاه"، ولا أبطالًا لدراما صعيدية لكي أناديها "يا أمّاي"، كما أنها تغضب مني عندما أقول لها حين تكاد تدفعني إلى الجنون: "يا ست إنتي"، لذلك كله أناديها دائمًا "يا أمي"، ومع ذلك أغضب من كل مَن تزل لسانه فيسألني: "أخبار صحة أمك إيه؟"، ليس لديّ تفسير منطقي لذلك التناقض، لكن ليس هذا مهمًّا الآن، فالمهم أنّ أمي خرجت بالسلامة من المستشفى.

أحمد بك شوقي يقول إن الأم مدرسة، فقط "إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق"، وبالأمانة أنا لم أسأل أمي أبدًا عن طبيعة وتفاصيل "فترة الإعداد" التي جعلَتها تُخرج شابًّا طيب الأعراق مثلي، لكنني أميل إلى التعامل مع أمي بوصفها أكاديمية، ليس فقط لأنني لم أحب جميع المدارس التي قضيت فيها فترة العقوبة التعليمية، ولكن لأن أمي أجمل وألطف بكثير من أن تكون مَدرسة، لن يدفعني حبي الجارف لها للمبالغة فأصفها بأنها جامعة، مع أنني تعلمت منها ما لم أتعلمه من أتخن جامعة في مصر، لكن هذا ليس مهمًّا الآن، المهم أن أمي خرجت بالسلامة من المستشفى، بعد أن علمتني كعادتها عددًا لا بأس به من الدروس المستفادة. الدرس الأول (وإن كنت لا تحب سيرة الدروس فيمكن أن تعتبره الأول والأخير): لا تثق أبدًا بكل ما "يبدو حميدًا"، ولا بكل مَن "يبدو حميدًا".

"يبدو حميدًا"، تلك هي الترجمة الحرفية للعبارة التي يبحث عنها الناس بلهفة في نتائج الأشعة والتحاليل. لكن الطبيب البارع كان صادقًا معنا منذ البداية "صحيح أن الأشعة والتحاليل بتقول إن الورم يبدو حميدًا، لكننا لن نعرف ذلك يقينًا إلا قبل العملية بلحظات من خلال ما يُعرف بالفروزن"، لم أفهم كلمة مما قاله لكنني أكرره لها وأنا أهز رأسي بثقة لكي أحاول أن أبدو مُطمئنًا، فتقول لي بثقة مُطْلقة كأنني أنا المريض الذي ينتظر تقرير مصيره "حميد ولَّا مش حميد.. كل اللي يجيبه ربنا كويس.. بس يا ابني ماتخافش أنا حاسّه إنه حميد"، ثم تُذكّرني بمقولة محمود عبد العزيز الخالدة: "صدَّق العليل ولا تصدق التحاليل"، وأنا لكي أهرب من قلقي وجدت ما قالته فرصة سانحة لفتح ملف إيمانها الأزلي بالطب البديل والطب الشعبي والطب النبوي والطب الفرعوني وكل أنواع الطب التي لا يضطر الإنسان فيها للذهاب إلى طبيب بجد على أساس أنه "ربنا ما يحوجنا للدكاترة يا بنتي"، وهي دعوة "أمهاتية" خالدة ثبت أن الإيمان بها هو الذي يحوجنا حقًّا إلى الدكاترة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لا أذكر عدد الساعات التي قضيتها في انتظار أمي بعد أن صعدَت إلى غرفة العمليات، لكني لن أنسى أبدًا أنها كانت ساعات خرائية بكل ما للكلمة من دلالات مقرفة، لن أغالط نفسي لكي أرضيك فأصفها بأنها كانت ساعات كئيبة أو موحشة أو قاتلة، دعني أسأل الله ألا تجربها أبدًا لكي تتأكد من صدق توصيفي، يكفي أن تعرف أنها انتهت بدخول الممرضة وهي تقول بنبرات احترافية: "الدكتور عايزك بسرعة في أوضة العمليات". في لحظات كهذه أنت لا تجري من الرابع إلى السابع بكل ما أوتيت من قوة لكي تجد الطمأنينة، بل لكي تسبق وجدانك الذي تربى على عدم الثقة في أي مستشفى ولو كان فندقيًّا، وأي طبيب ولو كان الأمهر في مجاله، ستحاول فقط تذكّر كل ما حفظته من آيات وأوراد، لتطرد من ذهنك ذلك السؤال: مَن سيصل أولًا إلى غرفة العمليات: أنت أم ذاكرتك الملوثة بمئات الحكايات التي تنتهي بتلك الجملة غير الحميدة التي ينبغي أن يُحاكم أول مَن كتبها في فيلم سينمائي: "عملنا اللي علينا والباقي على الله".

هناك أشياء كثيرة لن أنساها للدكتور وليد عبيد الذي أجرى العملية الجراحية لأمي، أهمها أنه قال لي مباشرة ودون أي تمهيد أو وقفات أو تشديد على مخارج الألفاظ: "للأسف الورم اتضح أنه خبيث ولأنه طالع من العصب اللي بيحرك القدم هنضطر نستأصل العصب"، ثم يبدو أنه قرأ الرعب الذي احتل وجهي، فتذكر ما قالته له أمي قبل العملية عن عشقها الأزليّ للمشي والحركة، وخوفها من أن تُقعدها العملية فبادرني شارحًا: "ما تقلقش هي هتقدر تمشي عادي جدًّا، صحيح بمساعدة دعامة في الأول، لكن هتمشي عادي، بس للأسف مش هتقدر تحرك القدم لفوق وتحت ولا تحس بباطن القدم، ولازم تاخد بالها من رجلها كويس قوي يعني زي مريض السكر"، وأنا هتفت كأنني ماصدقت: "أنا عندي السكر وعارف"، ولم يكن في الأمر شيء يستدعي الهتاف بكل ذلك الحماس، سوى رغبتي الساذجة في الشعور بالتوحد مع أمي في معاناتها القادمة.

نحاول استثمار الوقت الذي نقضيه سويًّا في تقليب كل المواجع الساكنة أو حديثة التقليب، نظل هكذا أحيانًا لساعات، أمي تبكي وأنا أسخر مما تبكي عليه مهونًا من شأنه لكي أدفعها إلى موضوع آخر يستحق البكاء من أجله، وزوجتي لا تفهم أبدًا كيف تتقبل أمي تعليقاتي الساخرة من كل ما تحكيه أمي من أحزان

"طيب هي بقت كويسة يا دكتور؟"، سألته وأنا لا أعرف أن العملية لم تبدأ بعد، وأن كل ما مضى من وقت كان يتم فيه تحديد طبيعة الورم اللعين لمعرفة هامش الأمان الذي يجب استئصاله معه من الأنسجة، أجابني: "العملية سهلة ومش هتاخد وقت طويل.. بس كان لازم عشان ناخد القرار أبلغك إن الورم مش حميد"، وأنا في تلك اللحظة ودون أن أدري تقمصت شخصية أمي وقلت له: "حميد ولَّا مش حميد.. كل اللي يجيبه ربنا كويس". الحمد لله.

قالت أمي إفيهًا عاليًا جدًّا قبل أن تصعد إلى غرفة العمليات. كانت قد أخذت حقنة التخدير الأولى لتوّها، نظرت إليّ وهي تغالب النوم وقالت لي ضاحكة: "أنا خايفة أروح في النوم". وأنا حمدت الله لأنها راحت في النوم سريعًا قبل أن تراني وأنا أبكي.

كنت أحتاج إلى البكاء بشدة، ربما لأنني لم أبكِ منذ أيام، فأنا أُحرَم قسرًا من البكاء طيلة الوقت الذي تُقيم فيه أمي لديّ، لأنني أكون منشغلًا أغلب الوقت بدفعها إلى التوقف عنه، نحن لم نعد نقعد براحتنا كثيرًا زي زمان، وأمي لا تحب أن تبكي أمام أحد غيري، ولأن البكاء في التليفونات محظور طبقًا لاتفاق سابق بيننا "يا أمي أحب أشوفك وانتي بتعيطي قدامي عشان أطّمن عليكي"، لذلك نحاول استثمار الوقت الذي نقضيه سويًّا في تقليب كل المواجع الساكنة أو حديثة التقليب، نظل هكذا أحيانًا لساعات، أمي تبكي وأنا أسخر مما تبكي عليه مهونًا من شأنه لكي أدفعها إلى موضوع آخر يستحق البكاء من أجله، وزوجتي لا تفهم أبدًا كيف تتقبل أمي تعليقاتي الساخرة من كل ما تحكيه أمي من أحزان، في البداية كانت تقول لها بدهشة: "أنا مش فاهمة إنتي إزاي ساكتة له يا طنط"، حتى اضطررت أن أشرح لها أن ما أقوم به وسيلة علاجية لمنح الأحزان نكهة تخفف طحنها لعظام الروح، ومع أنني قلت ذلك بالعربية الفصحى إلا أن زوجتي لم تقتنع، وقررت أن تتعامل مع الأمر بمنهج آخر أكثر منطقية "طيب أسيبكو مع بعض بقى شوية".

عندما قاسوا لأمي الضغط قبل موعد العملية بساعات ووجدوه عاليًا نظرت لها باستغراب، وعندما هربتْ بعينيها بعيدًا عني، تأكدت أن في الأمر سرًّا، انتظرت حتى خرجت الممرضة ثم قلت لها بصوت تعمدت أن يبدو ناشفًا: "هه.. خير إن شاء الله"، وهي نظرت في عيني مباشرة وقالت بحزم: "دي طريقة تكلم بيها أم داخلة تعمل عملية كمان ساعتين"، وعندما ضحكت من قلبي قالت لي: "عاجباك قوي.. طيب ابقى خلي عبلة كامل تقولها في الفيلم الجاي.. واخرج شوف لي الدكتور وأنت ساكت".

...

نكمل غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.