"برونكس" لأوليفييه مارشال: حِرفية سينمائية معطَّلة وتمثيلٌ رتيب

"برونكس" لأوليفييه مارشال: حِرفية سينمائية معطَّلة وتمثيلٌ رتيب

09 نوفمبر 2020
جان رونو: دورٌ عادي في "برونكس" يناقض حيوية سابقة (بابلو كوادرا/Getty)
+ الخط -

جديدُ الممثل الفرنسي جان رونو (1948) دورٌ رتيبٌ وباهت، في فيلمٍ فرنسيّ بعنوان "برونكس" (2020، يُعرض على شاشة المنصّة الأميركية "نتفليكس" منذ 30 أكتوبر/تشرين الأول 2020)، تجري أحداثه في مارسيليا. مخرج الفيلم أوليفييه مارشال (1958)، ممثلٌ وسيناريست أيضاً. يختار جنوب فرنسا لسرد حكاية مُكرَّرة في السينما الغربيّة، تقول بتحالفٍ بين رجال شرطة ومحقّقين مختلفين، وعصابات مختصّة بتجارة المخدّرات والسرقات وغيرها. أفلامٌ سابقة له تؤكّد "اختصاصه" في عالمي الشرطة والأجهزة البوليسية والعصابات. مارسيليا نفسها تحضر أيضاً، كما في MR 73 (أحد أنواع المسدسات المصنوعة في فرنسا)، المُنجَز عام 2008. أول روائي قصير له كمخرج يحمل عنواناً يشي بهذا المسار: "شرطيّ صالح" (1999)، بينما أول روائي طويل له ينتقل إلى الضفّة الأخرى من المواجهة والتحالفات: "رجال العصابات" (2002).

"برونكس" يتابع إنجاز أفلامٍ منتمية إلى نمطٍ واحد: صراع دموي بين عصابات ورجال أمن وتحقيقات، أو في عالم العصابات تحديداً. الفساد ينخر أجهزة الشرطة والأمن، والابتزاز حاصلٌ بقوّة. تحقيقات تهدف إلى تنظيف "البيت الداخلي"، وشرفاء قليلون يحاولون إنقاذ زملاء لهم تعطبهم العصابات، تهديداً أو توافقاً. معظم رجال الشرطة الفاسدين يبدأون "تعاونهم" بعد مرور نحو 20 عاماً (أو أكثر بقليل) على وظيفةٍ، غير مُنتجةٍ أموالاً يحصلون عليها بكثرة وسرعة من عصاباتٍ، تريد مساحات آمنة لها ولأعمالها الوفيرة. أحياناً، "يختفي" عمل شرفاء، وأحياناً أخرى لن تكون مُهمّةً الإشارةُ إلى سنين الخدمة، فالراهن أساسيّ، والمصالح مشتركة، وأسباب "التعاون" عديدة.

في "برونكس"، يؤدّي جان رونو دور المدير الإقليمي للشرطة القضائية، آنج ليونيتّي، المنتقل إلى مارسيليا لإدارة أزمة في أقسام الشرطة، المختصّة بمطاردة العصابات ومكافحة المخدّرات تحديداً. حضوره يقتصر على مشاهد أقلّ من غيرها، في فيلمٍ تبلغ مدّته 116 دقيقة. البطولة لآخرين، أمثال لانّيك غوتري وستانيسلاس مِرار وموسى مسْكري وباتريك كاتاليفو وغيرهم. هؤلاء مسؤولون في تلك الأقسام، يتنازعون فيما بينهم لأسبابٍ مهنية، ولارتباطاتٍ مشبوهة تنكشف تدريجياً، تماماً كانكشاف تورّط ليونيتّي مع إحدى العائلات المافياوية المتصارعة في مارسيليا.

لا جديد يُذكر في جديد الثنائي أوليفييه مارشال وجان رونو. "برونكس" فيلمٌ بوليسيّ يلتزم قواعد هذا النوع السينمائي، ويُصنع بمهنيّة واحترافٍ عاديين. نسج الحكاية عاديُّ بدوره، وتداخل الذاتيّ (الحياة اليومية والعلاقات العاطفية والعائلية والزوجية للشخصيات الأساسية) بالمهنيّ غير نافر، لأنّه مشغولٌ برويّة وبساطة، ومن دون فذلكةٍ متصنّعة، أو اهتمامٍ أكبر بجانبٍ من دون الآخر. أدوارٌ واقعية، وحوارات متداولة بكثرة، ونزاعات عامّة تحصل، وصدامات عائلية معروفة، والتوقّعات سهلة. الانهيار النفسيّ لبعض رجال الأمن غير أساسيّ في النصّ، وإنْ يكن حضوره مطلوباً، فهذا يحدث في مهنٍ كثيرة، بينها مهنة محقّقين أو عملاء أمن وشرطة أو عاملين في أجهزة مكافحة المخدّرات مثلاً.

 

 

أما الأداء، فمنسجمٌ ومفردات النوع البوليسي التشويقيّ، الذي يُقدِّم مَشاهد مطاردات وعنف وإطلاق رصاص، تكون ضرورية، لأنّ مُشاهدين كثيرين يرغبون فيها، ولأنّ هذا النوع تحديداً يحتاج إليها كجزءٍ من البناء الدرامي للحكاية ومعالجتها الدرامية، وللمشهدية السينمائية أيضاً. لكنّ اللافت للانتباه كامنٌ في الأداء الباهت لجان رونو، المحنّك في تمثيلٍ متنوّع الأشكال والتقنيات والجماليات الفنية، في أفلامٍ تصنع حضوراً ثابتاً له في المشهد الدولي، وتمنحه مساحات كثيرة للتمرين والتجديد، وللاختلاف أحياناً عن أدوارٍ سابقة. شخصية آنج ليونيتّي تجمع في ذاتها أخلاقيات مهنة وتورّط فاسد يؤدّي غالباً إلى مقتل أناسٍ كثيرين. تأديته الدور غير متوافقة وحِرفيته التجديدية، فحركاته ونظراته وملامحه وارتباكاته وسطوته وتحدّياته، مسائل تظهر عاديّة للغاية، مع لحظات عدّة تكشف تراجعاً في الاشتغال على الذات الفنية.

لجان رونو دورٌ يُقدِّمه في "مكافحة العصابات" (2015) لبنجامن روشي. اختلافه عن دوره في "برونكس" متمثّل بالجانب الفاسد في شخصية آنج ليونيتّي. مع روشي، يذهب سيرج بوران (رونو) إلى أبعد حدّ ممكن في أصالته الأخلاقية للمهنة، ما يجبره على دفع ثمنٍ باهظٍ لقاء تمسّكه الأخلاقي بأصول الوظيفة. والاختلاف حاضرٌ أيضاً في الأداء، ففي "مكافحة العصابات" يمنح رونو شخصيته السينمائية سمات مُحترفٍ مُنصرفٍ إلى تحقيق العدالة بأي ثمن، مع ما يطرحه هذا من أسئلة أخلاقية أيضاً تؤثّر على شخصيته النفسية.

لائحة أفلام جان رونو مليئة بأعمال تتأرجح بين أنماطٍ مختلفة، بعضها تشويقيّ يحمل في نصّه تساؤلات واقعية عن المهنة والعلاقات والهوية والوجود والوظيفة والانفعال، وغيرها. في "برونكس"، يبدو مكتفياً بوظيفته التمثيلية، من دون اهتمامٍ بفعل الأداء وفنّ التمثيل. هذا حاصلٌ معه سابقاً، ومع آخرين أيضاً، فالمهنة لن تكون دائماً "سينيفيلية" فقط.

المساهمون