أيكون للنفوس الميتة "إجازة"؟ وثائقيٌّ عن ذاتٍ مُحاصرة

أيكون للنفوس الميتة "إجازة"؟ وثائقيٌّ عن ذاتٍ مُحاصرة

02 نوفمبر 2020
لِفان سْفانيدزه ووالدته: ضيقُ مكانٍ وروحٍ وحياةٍ (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

في الدقيقة الرابعة، يُعرِّف لِفان سْفانيدزه عن نفسه بصوتٍ مُتعَب. يذكر اسمه. يقول إنّه موسيقيّ، وإنّه يبلغ 44 عاماً، وإنّه يعيش مع والدته لامارا: "مهما يبدو هذا غريباً، فهناك في مكان ما على حافة المدينة، أحاول فقط حلّ الأمور". قبل سنين مديدة، في تسعينيات القرن الـ20، يحضر سْفانيدزه في المشهد الموسيقي الجورجيّ كأحد أبرز وجوه فرق الـ"أندرغراوند". في "تبليسي"، يصنع اسماً كعازف "جهير (Bass)"، ويُصبح مشهوراً. هذا ماضٍ منتهٍ. اليوم، يعاني سْفانيدزه إحباطاً وخيباتٍ ومواجع وقلاقل واغتراباً وتشرّداً، وعيشاً يومياً مع والدته لامارا، في استديو تبلغ مساحته 14 متراً مربعاً فقط.

هذا يُبيّن مأزقاً حياتياً، يتخبّط العازف الموسيقيّ فيه. "إجازة النفوس الميتة (Dead Souls’ Vacation)" اختزال مكثّف لفيلمٍ يروي سيرة فنان في رحلة الهبوط إلى الجحيم الأرضيّ، بل في العيش في جحيم كهذا. العنوان اسمُ أوّل فرقة موسيقية يؤسّسها سْفانيدزه في "عصره الذهبيّ". الكاميرا (كوتي كالاندادزه، المُشاركة في كتابة الوثائقيّ مع مخرجته كيكو شِليدزه، وفي توليفه وإنتاجه أيضاً) تُرافق شاباً نحيلاً، يُرخي لحيته قليلاً قبل حلقها، ويترك شاربَين يُشبهان شاربي هتلر قبل التخلّص منهما، ويحتسي الفودكا (تبدو أنّها رخيصة)، ويمشي كثيراً، ويلتقي أناساً معظمهم يعيشون حياة أسوأ، ويحاول تسويق مُنتَجٍ موسيقيّ له، ويجهد في الحصول على عملٍ، لكنّ الفودكا تحول دون ذلك، مع قلّةِ ثقةٍ به وبمدى التزاماته.

فيلمٌ قاسٍ عن واقعٍ مُدمَّر. ارتباطٌ حادّ بين ابن وأمّ، في علاقة جلاّد بضحيته. يخضع لِفان لأمّه. ينزعج من اتصالاتها الهاتفية المتكرّرة بكثرة، لكنّه يُصلّي للربّ كي يُشفيها من أزمة قلبية، فهو عاجزٌ عن العيش من دونها. يتخبّط في قلقٍ عنيف. يريد خلاصاً، لكنّ الطرق إليه مغلقة، أو لعلّه هو غير منتبه إليها. يزور جارةً، ويذهب إلى زملاء مهنة، ويحمل آلته الموسيقية، كأنّه في تجواله هذا يسير على درب جلجلة، نهايتها غامضة أو ملتبسة أو تائهة في الحياة، مثله. يضيع في الاستديو الصغير جداً، وهذا يبدو أسوأ ما يحصل معه، وإنْ من دون اعترافه. محاصرٌ هو، والأمّ تُردِّد على مسمعه دائماً، رغم انزعاجه ومطالبته إياها بالكفّ عن ذلك، حكاية والدٍ يمدح ستالين زمن البطش السوفييتي. كلامٌ عابرٌ يُقال بينهما عن علاقةٍ بين ستالين وهتلر، فهما (ستالين وهتلر)، بالنسبة إلى لِفان وأمّه، صديقان يُخطّطان لكلّ الحاصل في العالم.

 

 

باختياره يوميات عيشٍ على حافة الخراب، أو فيه، يميل "إجازة النفوس الميتة" (جورجيا، 2020، 67 دقيقة) إلى جعل الكاميرا مرآة كشفٍ نفسيّ لاختلال عيشٍ في متاهة مدينة وحياة وعلاقة. فالكاميرا، بتصويرها يوميات لِفان سْفانيدزه، تُشرِّح نفساً توّاقة إلى منفذٍ تراه وتعجز عن بلوغه، وإلى انتفاضٍ ممكن لكنّه معطّل، لشدّة سطوة الأمّ على ولدها الوحيد. تصفيف شعرها وصبغه بالأسود، والرقص معها في حيّز أضيق من قبرٍ، واتصالات هاتفية غير منتهية، وخبريات تُروى، وتفاصيل تُقال، أمورٌ تصنع مناخاً عابقاً بالقهر والحُطام والانكسار، وإنْ "يتفنّن" لاوعي الفنان الشاب في إنكاره، رغم شعور طاغٍ به.

يقول لِفان سْفانيدزه، في لقطةٍ تُلخِّص سيرته المنبثقة من أفول زمنٍ زاهرٍ له: "أنا غير طبيعي. أنا غير طبيعي لأنّي، عندما أعود إلى ماضي حياتي، يتّضح لي أنّي مُختبِرٌ أموراً كثيرة لم يختبرها الأشخاص العاديون". يُضيف، بنبرةٍ تُشبه تلك التي يُعرِّف بها عن نفسه سابقاً، أنّ الغريب يُمكن أنْ يكون هو "الطبيعي". فبالنسبة إليه، "كلّ ما نقرأه ونستمع إليه ونعزفه ونشاهده غير طبيعي"، و"كلّ ما نحبّه غير طبيعي (أيضاً)". ويتساءل: "أليس كذلك؟". أخيراً، يقول بنبرة تلتبس معانيها رغم وضوحها: "أعتقدُ أنّ هذا كلّه يُشكِّل حياة طبيعية سويّة".

مرارة نبرةٍ تعكس ألماً دفيناً في ذاتٍ ملعونة بالعزلة والانكفاء والتهميش والخضوع. كلامٌ عن ستالين غير عابرٌ رغم قلّته. ذكر هتلر مرة واحدة، مع شاربين كشاربيه في لقطة موارِبة وسريعة، أساسيّ. تعليقٌ نقديّ يقول إنّ الوثائقيّ هذا غير محصورٍ بكونه "نظرة ذكية" تكشف "الخلل الوظيفي لعائلة واحدة"، بل تشريحٌ مبطّن لحياة لاحقة على انهيار الاتحاد السوفييتي. إنّه أيضاً تصويرٌ خفيّ وخفر لذاتِ أمٍّ تفقد كلّ شيء وكلّ أحد، فتحاول التمسّك بما أو بمن ينتشلها من غرقٍ تخشاه، فيكون لِفان آخر وسيلة لذلك. ولهذا ثمنٌ يدفعه لِفان، يظهر في سلوكٍ يوميّ داخل الاستديو تحديداً: إعداد الطعام، التدخين، مشاهدة التلفزيون، تنظيف الزجاج، احتساء الخمرة، الدردشات، الالتصاق الجسدي المنبثق من ضيق المكان، لكنْ المُعبِّر عمّا هو أعمق من مجرّد ضيق مكانٍ.

 

 

بهذا، يُصبح التوليف (كالاندادزه وشِليدزه وإلِنِه أساتياني) أسهل من ابتكار مستلزمات بناء درامي وجمالي لنصٍ يجمع الآنيّ بذاكرةٍ، والفرد بمحيطٍ، والنفس البشرية بعلاقاتٍ مبتورة. الشخصية الأساسية قابلةٌ، لوحدها، لصُنع فيلمٍ، يحمل في مسامه البصرية حكاية فردٍ يُقيم في بيئة ضاغطة، رغم صغر البيئة، فالأصدقاء والجيران والمعارف قلائل. هذا يُشير إلى الضيق في مسائل أخرى، يعيشها لِفان مع لامارا، أو من دونها، إذْ تضيق عليه الطرقات التي يعبرها، والأمكنة التي يزروها. مثلاً: يُطلّ من نافذة ضيّقة لمحلّ تجاري، لشراء زجاجة صغيرة من الفودكا؛ يتناول طعاماً في "كارافان"، مساحته الداخلية ضيّقة؛ شوارع قليلة تبدو لوهلةٍ أنّها واسعةٌ، لكنّها تكشف سريعاً عن أفقٍ مسدود.

"إجازة النفوس الميتة" توثيقٌ سينمائيّ عن علاقة مُدمِّرة بين أمٍّ ووحيدها، وبين سلطةٍ وناسها، وبين حياةٍ وعيشٍ. توثيقٌ يحوِّل أدوات الفيلم الوثائقي إلى مرايا تكشف ما يعتمل في جسدٍ وروح، وما يحصل في اجتماعٍ صغيرٍ وبيئة ملاصقة للفنان وأمّه. لقطات قليلة لعزفٍ حيّ، وموسيقى/ أغانٍ قليلة أيضاً تُرافق مَشاهد وتفاصيل، فالهمّ الوثائقيّ كامنٌ في سرد حكاية شابٍ له ماضٍ، لكنّ حاضره مرتبك (وهذا ما يُصوَّر أساساً)، وأفق المقبل من الأيام غامض.

المساهمون