زامر الحي... الذي ما أطرب يوماً

زامر الحي... الذي ما أطرب يوماً

20 أكتوبر 2020
+ الخط -

كثيرا ما تتردد هذه العبارة على أسماعنا، حينًا في سياق الشكوى من واقع يلتحف به أحدهم، وأحيانًا في إطار أمثلة نسمعها هنا وهناك، تعللها قصص متناثرة عن علماء وأدباء لم يكن لهم شأن في مجتمعاتهم وبيئاتهم..

"زامر الحي الذي لا يطرب"، وأشباهها من العبارات التي تصب في السياق ذاته، تُشير إلى واحدة من الإشكاليات أو "العقد" التي تعصف أو عصفت في وقتٍ ما بكل واحدٍ منا، وخطت في نفس من يعاني منها جروحًا غائرة، فمن لا يقدر في محيطه يعاني غالبًا من مشاعر النقص وعدم التقدير، وفي أحيانٍ كثيرة تدفع صاحبها إلى الهروب من بيئة لم يجد فيها التقدير المناسب والاهتمام اللازم، ومما يدلل على تجذر هذه السمة فينا تلك المقولة الشعبية "الفرنجي برنجي"، وهي تجديد للمثل العربي "زامر الحي لا يطرب".

ما أكتبه في هذه الأسطر أكمل به ما بدأته في مقال سابق "لماذا لا نكبر في نظر بعض الناس؟"، ولكنه ليس استكمالًا في النهج أو السردية، إنما متابعةٌ لسياق واحد من النبذ، وأداة من أدوات الإقصاء المباشر وغير المباشر، وهي كما ذكرت آنفًا سمة عامة تجتاح كل قطاع وجانب، وليست مقصورة في بيئة أو منطقة أو جسم بعينه.

من الأهمية بمكان أن نكون قادرين على تقدير كل من يحيط بنا، ولدًا أو زوجة، موظفًا أو عاملًا، عضوًا في جماعة أو ائتلاف أو حزب أو أي كيان آخر، وأن نستطيع استخراج ما لديهم من قدرات وطاقات ومواهب

وليست حالة نكران المقدرات التي بين أيدينا وأمام أعيننا حالة جديدة البتة، بل هي قديمة، ومنها أن والدة الإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه حلفت بيمين فحنثت فاستفتت أبا حنيفة فأفتاها، فلم ترض وقالت: لا أرضى إلا بما يقول زرعة القاص، فجاء بها أبو حنيفة إلى زرعة، فقال زرعة مخاطبًا أم أبي حنيفة أفتيك ومعك فقيه الكوفة، فقال أبو حنيفة: أفتها بكذا وكذا، فأفتاها فرضيت. وهذه القصة في جناب أم الإمام رحمهما الله وأي أم ليست منقصة، فالأم لا ترى ولدها إلا ذلك الصغير الذي يحبو بين يديها، ويشدها من طرف المئزر طلبًا لحاجة وطعام، ولكن في حق غيرها مثلبة عظيمة، إذ يضيّع الكثيرون فرص الاستفادة مما بين أيديهم من طاقات بقصر نظر وحجج واهية أو شرود غير مبرر.

وفي سياق الحديث عن تبديد الطاقة وغمط الناس مقاماتهم، أجد أن هذه الظاهرة تعود إلى عدة أسباب رئيسة، يمكن أن تقدم إحاطة بهذه الظاهرة، وأذكر منها:

السبب الأول: انكفاء صاحب التخصص والمتعمق في اختصاصه أو قضيته، نتيجة خجلٍ أو خوف أو غيرهما من المشاعر الإنسانية، إذ يدفن هذا التراجع الكثير من المواهب الفذة والمبادرات الخلاقة.

السبب الثاني: نظرة قاصرة، إن كانت من صاحب عمل أو مدير في شركة أو مدرسة، أو حتى من أحد الوالدين أو من كليهما وغيرهم من الرعاة والمسؤولين، وهي نظرة إما قد تجمدت بفعل الزمن، ففلان لا يحسن فعل كذا أو ليس أهلًا لكذا، كون الانطباع الأول قد تكون منذ سنوات طويلة، وفلان هذا قد طوى صفحاتٍ كثيرة من عمره، وتجاوز عقبات هائلة، واستطاع صقل نفسه وتطوير أدواته، وبزّ أقرانه وأترابه.

السبب الثالث: عدم محاولة اكتشاف الطاقات التي بين أيدينا، أو تكون تحت مسؤوليتنا، وهي عملية تحتاج إلى رؤية وصبر وتجربة وتؤدة، وإن غابت هذه العملية عنا في سياق شركة على سبيل المثال، يصبّ العبء كله على شخص واحد، أو تتم الاستعانة بخبرات خارجية لمعالجة أي إشكالية تعترض سير العمل.

السبب الرابع: قدرة الأشخاص من خارج البيئة على استعراض ما يملكونه من مقدرات ومعطيات ومهارات، وهي فرص لا تتاح عادة لمن هم في داخل المنظومة والجهة المعنية، إذ يتم تكبيلهم بالتنميط السابق، أو بما بين أيديهم من ملفات ومهام تنوء أكتافهم بها، فيكون اللجوء لذلك المستعرض -ليس بالضرورة استعراضًا فارغًا- هو الحل الأنسب، أو فرصة مرجوة لتطوير كوادر ولحل مشاكل.

وفي سياق الخبرات الخارجية، نجد أنه لا انفكاك من الاستعانة بها في سياق تطوير المؤسسات والأشخاص، ولكن اللافت أن تقوم جهة ما بالاستعانة بشخص متخصص في واحدة من الجزيئات الفكرية أو المعرفية أو التقنية، على الرغم من امتلاكها عددًا ممن خبر هذه الجزئية ودرسها، فتصبح الاستعانة هنا صورة مؤكدة لتلك المقولة التي عنونت المقال بها، واستمرارًا أحيانًا لحالة الإقصاء المتعمدة.

وجميع ما سبق في إطار تشخيص المرض، ولكن ما هي آثاره المباشرة على صاحب العلاقة، لا أملك هنا أجوبة شافية، ولكنني ومن خلال رصد بعض الحالات أجد أن هذا السلوك سيؤدي إلى تقوقع هذا الشخص على نفسه، وعدم محاولته المشاركة أو الانخراط في أي شأن من الشؤون ذات الصلة، اللهم إلا تلك التي تطلب منه في عمله أو مهام هو مشرف عليها، أما الأثر الثاني وهو الأخطر، ترك تلك البيئة التي لا تقدره، أو ابتعاده عنها إن كانت بيئة لا يستطيع الانفكاك عنها كالأسرة مثلًا، ويمكن أن يكون الترك غربة أو ابتعادًا أو انشقاقًا إن كان في حزب أو كيان مشابه.

أخيرًا، من الأهمية بمكان أن نكون قادرين على تقدير كل من يحيط بنا، ولدًا أو زوجة، موظفًا أو عاملًا، عضوًا في جماعة أو ائتلاف أو حزب أو أي كيان آخر، وأن نستطيع استخراج ما لديهم من قدرات وطاقات ومواهب، وألا ندفعهم لا إلى العزلة ولا إلى التقوقع، أو نمحو مثل هذه المصطلحات السلبية، لما في ذلك من آثار تعزز انسجام وتكاتف مجتمعاتنا، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلفه من الخلفاء الراشدين، نماذج متفردة من الاستفادة من الطاقات، ووضع كل صاحب شأن في الموضع المناسب، ما أدى إلى إطلاق شرارة حضارة متميزة أسهم الإنصاف والاستفادة من الطاقات بجزء لافتٍ فيها.

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".