"تونس الثائرة" لـ علي البلهوان: قبل أن تتكلّس لغة السياسيّين

"تونس الثائرة" لـ علي البلهوان: قبل أن تتكلّس لغة السياسيّين

21 أكتوبر 2020
من مظاهرات إبريل 1938 التي قادها علي البلهوان ضد الاستعمار (Getty)
+ الخط -

في تونس قبيل الاستقلال، كان من اللافت أن يواءم بعض المثقّفين بين ضرورات الكفاح الوطنيّ وشروط الكتابة في شؤون المعرفة والسّياسة والفكر. ومن أبرز الوجوه التي جمعت بين الكفاءتين، علي البلهوان (1909-1958)، "زعيم الشباب"، كما كان يُطلق عليه آنذاك. فقد مارس الرّجل، فترة ما بين الحربين وما بعدهما، أشكال النضال كافة، السلميّ منه والدبلوماسي والمُسلّح، بعد أن ترقّى في سُلّم الوظائف الحزبيّة وجال، بحكم مناصبه، دولَ العالم ليشهد محافلها الرسميّة ويعرّف بـ"القضيّة التونسيّة". 

وكان من نتائج مسيرته هذه، كتاب "تونس الثائرة" (1954) الذي حبّره لتنشيط الحركة الوطنيّة التونسيّة وفضْح جرائم الاستعمار الفرنسيّ في حقّ الشّعب التونسي، بعد أن أفرغها من محتواها. هذا وينقسم الكتاب إلى ثلاثة عشر فصلاً، بعضها نظريٌّ يتعلّق بالاحتلال وسلوكه العدائيّ وفظائعه، وبعضها الآخر تأريخيٌّ، يستعيد جذور الحركة الوطنيّة والنُّظم التونسيّة قبل انتصاب "الحماية" وبعدها. وذيَّله بتوثيق عن عمليات اغتيالٍ طاولت شخصياتٍ محوريّة في الحركة الوطنيّة، مثل فرحات حشّاد والهادي شاكر. 

وقد صرّح البلهوان أنّ الغرض من كتابه "فهمُ الحوادث البعيدة والقريبة التي أنتجت سياسة فرنسا الاستعماريّة وولّدت حركة وطنيّة تُقاومها وتتعامل مع نظمها الإدارية والسياسية التي فرضتها على الدولة التونسية". وهكذا، فالكتاب حديثٌ عن "التجربة التونسيّة"، التي خاضها المواطنون من أجل نيل الاستقلال وتعرية لأباطيل الاستعمار وجرائمه المُقَنَّعة والمَكشوفة. 

يمكن اعتبار الكتاب وثيقة عن مناورات الضاد في حومة النضال

وتجدرُ الإشارة هنا إلى أنّ هذا المناضل كان قد زاول تعلّمه في معاهد تونس حيث تَشبَّع من الروح العربية الإسلاميّة، ثم في أروقة السوربون، بباريس، حيث حظي بشهاداتٍ عُليا، بإشرافٍ من مُستشرقين كبارٍ مثل ريجيس بلاشير ووليام مارسي وليفي-بروفنصال، مما أتاح له استيعاب المناهج النقديّة في دراسة التراث فضلاً عن مبادئ الثورة الفرنسيّة وطرق اشتغال مُؤسّسات الدولة الحديثة، والتمرّس بالعَمل الجمعياتي والنَّقابي، حيث شارك في أعمال عديد الجمعيات القوميّة وخَطبَ في منابرها. 

وقد مكّنه هذا الزاد المعرفي، بعد عودته إلى أرض الوطن سنة 1935، من ملاحظة البون البائن بين ما تدّعيه فرنسا من صونٍ لحقوق الإنسان وكرامته وبين إجراءاتها القمعيّة ضدَّ الشعوب المستعمَرَة، فخاض، طيلة عقدين كاملين، تجربةً من أثرى تجارب الكفاح والسّجن والإبعاد، بين إلقاء الخُطب الحماسيّة وتحبير المقالات الصحافيّة وقيادة المظاهرات، في مسيرةٍ لافتة بحيويتها وتوفيقها بين البحث المعرفيّ والنضال الحزبي. 

من جهةٍ أخرى، يؤرّخ الكتابُ، وقد مرّ على صدوره قرابة السبعين سنةً، لمرحلة حاسمة من مراحل اللغة العربية حيث تبلورت حقولٌ كاملة من المفردات والصور الأسلوبية حول النضال الوطني، وامتزجت فيه سجلات العاطفة الدينيّة بمفاهيم السياسة الوضعيّة المعاصرة. فقد كان مُؤلّفه، وهو الخطيب العارف بنفسيات الجماهير وحساسيات المُخاطَبين، يستعمل تارةً مفهوم "دار الإسلام"، وتارة عبارات الدولة العِلمانية، التي تستدعي دعائم الحداثة ومبادئ الوطنيّة والعدالة والمساواة. وهو بنسيجه المعجمي وبنيته الاستدلالية عبارةٌ عن توظيفٍ ناجحٍ لحقل "المقاومة"، في أبعادها الحزبيّة والمسلّحة، عبّر عنه بوضوح، قبل أن تتكلّس مفاهيمه وتهترئ دلالاتها من كثرة الاستخدام والتلاعب والاستنزاف.

تُتيح العودة لمدوّنة الإصلاح التفكير في قضايا اليوم

فالكتاب، بهذا المعنى، وثيقة تاريخيّة حول أهم الأحداث التي حرَّكت تونس وقتها وحرّكت أفراد مجتمع تائقٍ إلى التحرّر من ربقة الاستعمار ومن أذناب المتواطئين معه. كما أنه وثيقة عن مناورات الضاد في حومة النضال، صافيةً بريئةً، تصوّر الواقع الجديد، القائم على أنقاض الحُكم العثماني، وتصف أعمال المقاومة التي ظهرت في تونس منذ العقد الأول من القرن العشرين مثل بعث الأحزاب والتنظيمات العمالية، فضلاً عن نقل الخُطب والمفوضات والمراسلات السياسية التي انعقدت بين مختلف الأطراف الوطنية. طورٌ من أطوار الضاد، يستدعيه الكتاب، في تسمية موضوعات الثورة والجهاد، والتي نضجت منذ القرن التاسع عشر حيث تماهت مع الخطاب الديني قبل أن تتخلّص من سجلاته بالتدريج.

وهكذا، يعيدنا "تونس الثائرة" إلى فَتَاء المُصطَلح السياسيّ العربي وجذور ظهوره. وقد يدعونا إلى التفكير في أسباب ترهّله في أيّامنا هذه. ولعلّ من مَفاتيح تجديد التفكير في قضايا التحرّر الوطني أن نبدأ برفع الترهّل عن عباراته التي تآكلت من فرط التلاعب بها واستخدامِها دون اقتناعٍ، وأن نعود إلى براءة المفاهيم التي انبنى عليها الكفاح ضدّ الاستعمار، بوصفه مجالاً ينبغي التفكير فيه. ويظل السؤال قائماً حول أسباب تَهميش مثل هذا الكتاب، على الصعيديْن، المحليّ والعربي، مع أنه من أنضج المحاولات التي صيغت لتفكيك الاحتلال، ممارسةً وعقيدةً. بل لم لا تستغلُّ مفاهيمه لقراءة واقع الاحتلال في فلسطين، مثلاً، والاستفادة مما أسماه الكاتب: "التجربة التونسية"، وإن كانت أبواب الاستعمار متعدّدة، وقد لا يصلح مفتاح واحدٌ لفتحها جميعاً.   

دلالات

المساهمون