وجه المعاناة

وجه المعاناة

06 أكتوبر 2020
+ الخط -

كم بتنا نشتاق اليوم إلى عش بيتنا القديم، وإلى أيام الطفولة الأولى والصبا، وأحلامنا الصغيرة، والحارة وأبنائها، إلى جانب الأهل والأصدقاء والمعارف برغم العوز والفاقة والفقر الذي كان يفتك بنا كلنا، نعم كلنا، وإن كنا نعيش في بحبوحة، في حينها، نحن أبناء سورية، أما اليوم فإن أغلب أهلنا هناك يعيش الفاقة، وبكل (مقرفاتها). وفي أماكن اللجوء، التي وصل إليها أبناء سورية، تغير الحال كثيراً، سواء أكان ذلك إلى أوروبا، (بلاد النعيم)، أو إلى الولايات المتحدة الأميركية، كندا، أستراليا، البرازيل، وفي العالم العربي الذي هو الآخر استقطب أعداداً كبيرة منهم.

بعد هذا الذي جرى، ويجري اليوم على الأرض السورية، ماذا يمكن أن نقول عن مصير مئات الآلاف، بل الملايين الذي هجّروا عنوةً، ومنهم من تمكن من الفرار من جلادي النظام والأسى الذي يعانون، والفقر المدقع الذي لمسوه بأيديهم، وندرة من فضّل البقاء في الوطن، ليس حبّاً فيه وإنما بسبب الخوف والرعب من المجهول؟

إنَّ ندرة توافر السيولة المادية بين أيدي الناس وقفت حجر عثرة أمام طرق أبواب الاغتراب، والهروب من وجه النظام الطاغية وزبانيته المستفيدة، جهاراً من جيب المواطن "المعتّر"، وما زالوا، وإلى اليوم يعبثون بخيرات البلد التي اغتنموها وعاثوا فيه فساداً، وها هي النتيجة التي وصلوا إليها بدءاً من غلاء المعيشة، غير الطبيعي، بحيث وصل سعر الدولار مقابل الليرة السورية إلى سقف الـ 3000 ليرة، في حين أنّ سعر الدولار لم يتخطَّ حدود الـ 50 ليرة خلال الفترة التي سبقت الأزمة، إلى جانب الانهيار الاقتصادي الكلي، والعسف بحقوق المواطن!

سورية التي لم تعد التي نعرفها، ورغم كل هذا الدمار والخراب والفقر الأسود، والعيش الذليل فإن المواطن السوري تشبّث في أرضه، برغم عنه، وليس عن طيب خاطر  بل رضا بالمقسوم..

 

الصورة المحزنة التي ينقلها لنا أهلنا وإخوتنا في الداخل السوري فيها كثير من المعاناة، ولكن ما العمل، فقد جبلوا عليها وأصبحت جزءاً من معيشتهم، وحتى أحلامهم!

ولم يكن المواطن في سورية في يوم ليحلم، ولو مجرد حلم، أن يصل به الحال إلى هذه الصورة التي بات يعيشها اليوم، ويعرفها الجميع، سواء في الداخل أم في الخارج، وسواء أكانوا مهاجرين أم متشبّثين فيه!

إنّهم صاروا جزءاً من الواقع، وها هم يتعايشون فيه رغم أنوفهم، وأغلبهم يفضّل الفرار بنفسه ولكن تظل هناك حواجز من الصعب تجاوزها، وبصورة خاصة من أمثال الكثير بالنسبة للمتزوجين الذين لديهم أسر كبيرة، وحتى المسؤولين عن الأسر الصغيرة، فإلى من يترك هؤلاء أطفالهم وزوجاتهم ويفرون من جحيم الفاقة والعوز الذي يعانون، والمطالب اليومية التي لا تنتهي؟!

أمثال هؤلاء، وغيرهم كثيرون، فضّلوا العيش إلى جانب أسرهم، مفضلين الموت البطيء عن السفر، والهجرة إلى بلاد بعيدة يجهلونها لكثير من الأسباب، ومن أهمها وفي مقدمتها من منهم يملك القدرة على تركهم للحاق بركب الهجرة؟ وكيف سيكون مصيرهم من بعده؟ وكيف يعيشون، ومن يلبي طلباتهم؟ ومن يرأف بحالهم؟ ومن هو المسؤول عنهم في حال غيابه؟ وكيف سيتدبرون أمورهم؟

الأسئلة لا شك كثيرة ومرعبة تبحث عن حلول، وصارت تهم كل مواطن سوري، ولكن؟

هذا ما دفع ربَّ الأسرة الفقيرة، إلى البقاء في بلده والعيش في خذلان وخنوع، والقبول بالواقع والالتزام بأيّ عمل مهما كان دنيئاً، وبأجر بسيط لأجل خاطر عيون أطفاله، وهذا ما يحدث اليوم في سورية التي تلاشت!

سورية التي لم تعد التي نعرفها، ورغم كل هذا الدمار والخراب والفقر الأسود، والعيش الذليل فإن المواطن السوري تشبّث في أرضه، رغما عنه، وليس عن طيب خاطر  بل رضا بالمقسوم.

أنقل هذا الكلام من رحم المعاناة التي يُعاني منها ابن سورية الذي تحمّل، وعلى مضض، هذا الواقع المرير منذ عشرات السنوات في ظل هذه الحكومة التي لا تعرف الرحمة، وكل همّها قهر المواطن السوري وعزله، وتركه على الرف، وإذلاله!

هذه لبّ المعاناة، وما تزال تزداد يوماً بعد آخر.. وخاصة في الداخل السوري.. فإلى متى؟

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.