البحث عن وطن

البحث عن وطن

22 ابريل 2016
دمشق القديمة (Getty)
+ الخط -
كنت أمشي في شوارع برلين في أحد الأيام الربيعية، مع صديقتي، مثقلة بالحزن، غير عابئة بما يدور حولي، لا أرى من جمال هذه المدينة الكبيرة، سوى أحلامي المؤجلة، وهمومي المتعبة. أقلب في رأسي خارطة أوروبا محاولة إيجاد وطن بديل، أرتبط به، وأعود إليه كلما ضاقت بي الدنيا، ولكنني لم أجد. ما هو الوطن أصلاً؟.. لمَ أشتاق لسورية وقد شعرت بغربتي بها كما أشعر الآن؟.
كان يوماً جميلاً بطقسه اللطيف وألوان الزهور التي لا تكاد تخلو من كل شارع. إلا أنني حاولت عبثاً أن أشم عبير الياسمين والكاردينيا التي تعبق في سورية في يوم ربيعي كهذا. وكأنني أبحث عن سبب آخر يؤجج حنيني وتوقي لأيام مضت. كم أخشى أن يجذبنا التفكير في الماضي كثيراً ونغفل عن حاضر قد يحتضن لحظات أجمل.
جلسنا في أحد المطاعم اللبنانية الذي فاجأنا بأغاني فيروز ليحيي الحنين والذكريات فينا أكثر. تحدثنا كثيراً محاولين تعداد البلدان المحتملة لهجرتي الثانية. أخبرتني صديقتي بأنني لن أنجح في محاولاتي هذه، مستحضرة كل المعاناة التي سأواجهها نتيجة لقرار كهذا. العناء بتعلم لغة جديدة، والتأقلم على قوانين جديدة، وبيئة جديدة، ومصاعب البحث عن عمل، والأصدقاء، وغير ذلك. صديقتي، وإن كان في قلبها القليل من الأسى والحزن، إلا أنها ترى في ألمانيا بلداً عظيماً، والمسارالصحيح لكل طموح. كانت تحدثني عن تجاربها لتثبت لي صحة كلامها، وتفائلني بغد أجمل، ونجاحات تنتظر. أثناء حديثها كانت فيروز تغني "بعدك على بالي".. وعلى أنغام تلك الأغنية، وصوت صديقتي، سافرت روحي إلى الجانب الآخر من العالم، إلى البحر هناك، وكأن البحر لم يوجد سوى في سورية، وإلى شوارع دمشق القديمة الساحرة.. كم أتمنى لو أنك سرتِ في تلك الأزقة الضيقة. لو شربتِ من مياهها وتنفستِ هواءها، لأدركت كم أشعر باليُتم بعيدة عن كل ما أشتاقه هناك. قاطعتها بقولي لا أريد التفكير كثيراً، فالتفكير سيبقيني حيث أنا. لا وجود للمنطق عندما يصبح الحنين مُكبلاً، ولا وجود للمنطق عندما تكون المشاعر وحيدة بلا وطن. المشكلة قد تكون أكبرأو أصغر من المكان ، وحتماً أن كل هذه العواطف والأفكار لم تكن وليدة اللحظة، بل نتجت عن مواقف حزن وفرح متلاحق، وانكسار قلب، وخيبات لا يشفيها سوى دفء بيتي وشارعي، وشجرة الصنوبر الكبيرة في زاوية ذلك الطريق في مدينتي العطشى، وكل ذكريات الطفولة التي تحيا هناك. لم تعلم صديقتي حجم الفراغ والوحدة الذين شعرت بهما وأنا أكلمها، كما لم تعلم كم كان البُكاء شهياً على تلك المائدة حينها. ولربما علمت واكتفت بالصمت. وحتماً أيقنت أن ثقل كلامي وهواجسي لا يمكنني مشاركته إلا مع من أخاطبه بصمتي وليس فقط بالمفردات.
كنت أطيل النظر بكل بيضاء في رأسها كانت تشتكيها بمرح، لصرف انتباهي عن شجن حاولت أن تخفيه بلا جدوى. وما أحزنني حقاً، أنني لم أرها أكثر استسلاماً من اليوم.. وبعد دقائق من صمتها، قالت ممازحة: "تحتاجين للحب، ستجدين وطنك بمن تحبين.. حين تغرمين!".
استوقفتني تلك العبارة طويلاً، وكأنها الإجابة التي كنت أبحث عنها لكل تساؤلاتي وحيرتي. نبضات القلب حيث تكون، تستحضر الوطن الذي يعيش فينا لنشعر بالأمان.
قاطعت جلستنا بقلق، وخرجنا على عجلٍ بلا سبب، وغادرت كل منا في اتجاهٍ دونما وداعٍ لائق. تلك هي الحقيقة البشعة، فإيجاد الحب الحقيقي لا يقل صعوبة عن إيجاد الوطن البديل. أدركت ذلك ولم أتمكن لحظتها من تبرير اختناقي الذي دفعني للمغادرة بتلك الطريقة الحمقاء. سامحيني يا صديقتي، لأن وجعي لم يستطع انتظار كأس الشاي الذي أردته حين علمت ما علمته حقاً، أن الوطن هو الحب، والحب هو الوطن.


 

دلالات

المساهمون