قطاف الأحلام

قطاف الأحلام

21 ابريل 2016
لوحة الأم (لؤي كيّالي)
+ الخط -

 هناك حيث أشيائنا التي لا نرغب في قولبتها، فنتركها خيالاً حراً لا تطاوله أعين.
 كأنّه الأمس، حين قبلتُ يدي أمي في موقف سرافيس "جرمانا"، حيثُ ابتعدتْ كثيراً، ابتعدتْ إلى المكان الذي لا يُمكن العودة إليه بكلِّ هذه الصور المركبة، فلا أريد رؤية البيوت المتهدّمة، ولا الشاهدات في المقابر تحمل أسماء طفولتي وشبابي، ولا بحة المآذن المتآكلة كأنها صوت كمانٍ متقطعٍ طبعت في مخيلتنا بعد كلِّ هذا النزف، هؤلاء من الصور والذاكرة، يأتون في المنام، حاملين كمنجات متقطعة، وصوراً من ذاكرةٍ لم أعد أعرفها، لكنّ أمي لا تأتي في المنام، لا أراها، كأنَّ الأمهات واقع مفروض بعظمة محبة، لا يمكن أن تطاوله، أو تحتفظ به كخيال حر.
 منذ أسبوع وأنا بلا أحلام أو منامات لصوري القديمة، لعلَّه حين يصبح المرء مجرد هيكل فارغ، لا يُسمع منه سوى طرطقة الريح في جدران جسده الخاوية، يتحرر من كل همومه كأنها نقطة الإيجاب الوحيدة، أمام كم تساؤلاته المرتبطة بدمع لا يعرف لما يسكب، ودمٍ يُسفك عند كل صوت حرب، ولو كانت قبلة. 
خارج حدود الحلم أنا خمسون كيلوغراما، وأصبع ملصوق بشكل مشوه، أنا مجرد شخص يعيش، لأنه لا مجال للموت أمام كائنات لم تخسر كل شيء، مازالت كالعوالق تأكل أوراق الصحف وكتباً غبية، لا يأتي الموت على أشخاص ولدوا للموت أكثر مما ولدوا للحب. 
هل حقاً أحبكِ!؟ 
أنا المسافة من عدم، أكون هناك وهنا، ولا جسد.


هل حقاً أحبك!؟ 
أنا الذي كان يكفيه أن تقولي له لا متسع لدينا، وتطبعي القبلة التي تحدث طرطقة الريح، فيزهر لي قلب وتورق محبة. 
أجل 
كان يكفي أن تكوني هنا، وأن تمري كنسمة ربيع لا تأتي عادة في بيروت، كان يكفي أن تهمسي بدفء في رئتي الباردتين، ولا برد، ولا نصف موقف، ويصدح في غفلة من تيه لي وتيه لكِ، "لمتاش نحبك في الخافي"*. 
أجل 
يتوقف كل شيء دائماً عند التفاصيل العادية، كأن أقول لكِ ما لم أقله لأحد قبل، أنا نصف فنجان قهوة يشربه العابرون، بعجل، فلا تهملي التفاصيل المتكوّمة كصورة شفةٍ على الحواف، قد تكون نقشاً يليق بمعصمك البدوي، بمعصمكِ الذي يقتل كل الدفء وكل البرد، وكل الصوت. 
أجل
 لا تهملي التفاصيل، بعض الصور في المخيلة، مجرد رصاصة أخطأتنا وقتلت ظلال الحزن، وقد تكون قتلت أوهامنا. 

...........

*لمتاش نحبك : أغنية للمطرب التونسي لطفي بو شناق

دلالات

المساهمون