مقاهي القاهرة: أمكنة للغناء والسياسة

مقاهي القاهرة: أمكنة للغناء والسياسة

03 مارس 2016
مقهى شعبي في القاهرة (Getty)
+ الخط -
اشتهرت “القهاوي"، أو المقاهي في مصر منذ العصر العثماني؛ وسُمّيت بذلك لأن مشروب القهوة كان عمادها الأساس، إضافة إلى شُرب الدّخان الذي عُرفَ في أيّام الوالي العثماني "علي باشا الخادم" سنة 1558. والقهوة المعروفة في مصر هي التركية، وهي تختلف في تحضيرها عن القهوة العربية واليمنية.

بديل عن حرمة البيوت
أما الآن، فقد صارت جميع المشروبات الباردة والساخنة تقدم للزبائن حسب الطلب، وتشتهر القهاوي الشعبية خصوصاً بتقديم السحلب والقرفة شتاء، والعناب البارد صيفاً، إضافة إلى الشاي الأحمر الذي صار هو المشروب الأساسي طوال العام بدلاً من القهوة. ويطلق على الجزء المفتوح الذي تعد فيه المشروبات "النَّصْبَة"، بينما يطلق على صاحب المكان “المعلم"، أما النادل فيسمونه "قهوجي”! يبدو أن نشأة القهاوي الأولى، كانت انعكاساً لعصر الحريم، الذي كان يراعي بصورة كبيرة حرمة البيوت وبروتوكولاتها المتحفّظة، فاتّجه الرجال والشباب إلى الخروج واللقاء في أماكن عامة تسمح لهم بالتحلل من التقاليد القاسية داخل المنازل المغلقة بمشربياتها ورواشينها. كما أنها كانت البديل الشعبي المهذب للخمّارات والسفن النيلية التي كانت يمتلكها بعض المماليك، ويمارسون فيها حياتهم المترفة بعيداً عن سلطة المجتمع ونظام الحسبة.

ويذكر عبد الرحمن الجبرتي (1756- 1825) أن من تقاليد القهاوي أن تغلق أبوابها في نهار رمضان، وتفتحها بعد المغرب، غير أن عساكر العثمانيين كانوا لا يصومون ويرفضون هذا النظام، فتحدُث معارك ومشاحنات بينهم وبين الأهالي.

لم يغفل المؤرخون والمستشرقون ذكر القهاوي القاهرية ومريديها، فذكرها مؤلفو كتاب "وصف مصر" من علماء الحملة الفرنسية (في الفترة من 1809-1822)، وإدوارد لين (1801-1876) في كتابه "المصريون المحدثون: شمائلهم وعاداتهم"، كما أن علي مبارك باشا (1823- 1893) حصر أعداد القهاوي سنة 1880، فكان عددها 1076 قهوة. وحظي حي الأزبكية بنصيب الأسد بعدد 252 قهوة، ثم بولاق بـ 160 قهوة، والجمالية بـ142 قهوة، وحي عابدين بـ 102 قهوة.

إقرأ أيضاً:صوت الستّ

نوعان من المقاهي
بعد الحملة الفرنسية، عرفت القاهرة نوعين من القهاوي العامة، إحداهما القهاوي البلدية المعروفة، والثانية القهاوي الإفرنجية، وهي التي ابتدعها الجنود الفرنسيون يوم افتتحوا ملهى "كيغولي" بالأزبكية، وهي أماكن مغلقة اشتهرت بالرقص، يقف على بابها شخص وظيفته أن يسمح بدخول الزبائن ويسمونه "الخلبوص”!. وقد انتقد الجبرتي ارتياد بعض علماء الأزهر لها، ووصف ذهابهم إليها، بأنّه رجسُ من عمل الشيطان.

مكان للغناء
عرفت معظم الفنون طريقها إلى الناس عبر القهاوي التي كانت تستضيف بعض محترفي الفنون الشعبية، مثل الغناء الذي كان يقدمه بعض مشاهير المطربين، فقد بدأ بعض شيوخ الغناء العربي، مثل عبده الحمولي مغنيا في قهوة عثمان بحي الأزبكية. كما كان هناك بعض الهواة الذين يتخذون ركناً في القهوة يغنون فيه ويسمون “الصهبجية". كما دخلت النساء إلى الغناء بالقهاوي مبكراً، وكن يُسمين "العوالم" (مفردها عالمة بكسر اللام وتسكينها)، وكان يقول المستشرق البريطاني، إدوارد وليم لين، الذي عاش في أحياء القاهرة كأحد المصريين وسمّى نفسه "منصور أفندي" عن غناء العوالم: "وقد سمعت أشهر عوالم القاهرة، فأطربتني أغانيهن، بل وأستطيع أن أضيف بحقّ: ومن أي موسيقى أخرى تمتعت بها. ويخطئ من يخلط بين العوالم والغوازي اللاتي ينتسبن إلى بعض القبائل التي احترفت نساؤهن الرقص، وكن يدرن في الموالد، وتستضيفهنّ بعض المقاهي بالأزبكية”.

ويذْكَر أن الشيخ، أبو العلا محمد، اصطحب الطفلة أم كلثوم، في أول ظهور فني لها بالقاهرة، إلى بعض المقاهي، وكانت ترتدي العقال. حتى تعاقد معها صاحب مقهى ريش لتقدم أمسيات منتظمة. وذكر علماء الحملة الفرنسية أن القهاوي كانت تشهد أيضاً وصلات من الإنشاد الديني والمدائح النبوية، وشاعر الربابة الذي يحكي السير الشعبية، والحكواتي وخيال الظل والأراجوز والزجالون والأدباتية وغيرهم.


لجأت القهاوي، أيضاً، إلى توفير أنواع بسيطة من ألعاب التسلية، يمارسها الزبائن أنفسهم، وهم جالسون على طاولاتهم، مثل الكوتشينة والطاولة والدومينو والشطرنج. وفي بعض القهاوي المتحررة من ربقة المجتمع وتقاليده، كانت ألعاب القمار عنصراً أساسياً، يجذب نوعية معينة من الزبائن، الذين كانوا يستبدلون بعض أنواع الخمور الرخيصة بالقهوة. فيما تميزت بعض القهاوي بألعاب خاصة مثل صراع الديوك الهندية والمقامرة عليها، مثلما يصفها عبد المنعم شميس في كتابه "قهاوي الأدب والفن في القاهرة".

إقرأ أيضاً:أزبكية عمان..لكل زائر كتاب ولو بالمجان

وبعد ظهور الراديو، كان الناس يجتمعون بالمقاهي لسماع الخطب السياسية الرسمية والأخبار، حيث كان يندر توافر ذلك في بيوت الناس، وحدث الأمر نفسه مع دخول التلفزيون البلاد، وفي الوقت الحاضر، أصبحت القهاوي مركزاً لتجمع الشباب، لمشاهدة المباريات الرياضية المشفرة.
في الوقت الحاضر، يكاد لا يخلو شارع في القاهرة من قهوة، وقد نتجت أنواع أخرى من المقاهي الصغيرة جداً لخدمة حارة معينة أو مجموعة معينة مزدحمة بالسكان والعمال، ويسمونها "غُرْزَة" إذا كان المكان مغلقاً، أو "نَصْبَة" إذا كان مفتوحاً.


من الناحية التاريخية، اشتهرت قهوة البوستة بالعتبة الخضراء، وقهوة أفندية بحي الأزهر، وجروبي بميدان طلعت حربن وبالقرب منه قهوة ريش، وقهوة الفيشاوي بحي الحسين، وقهوة بار اللواء وقهوة البلغاري بباب اللوق، وغيرها.

إقرأ أيضاً:حي الأحباس في كازبلانكا برائحة الكتب والعتاقة

المساهمون