الجداريات... لوحات حيّة تخلّد الحياة

الجداريات... لوحات حيّة تخلّد الحياة

12 يناير 2016
رؤيا صارخة متاحة لكل عابر (العربي الجديد)
+ الخط -
لعلّنا حين نرسم أو نكتب فإننا نتحدى الفناء بالخلق، أو بترك ما يدل علينا ويبقى، ولعلنا أيضا نقول بالرسم ما لا نجرؤ على القول به بالكلمات فتكون الأشكال والألوان هي حريتنا المنشودة أو قد تكون انعكاس أرواحنا بكل ما فيها من أفكار ومن خطوط وتدرجات للألوان وبكل ما فيها من ظلال. لذا فمذ وجد الإنسان وجد الرسم على الجدران التي كان يمتلكها كأول طريقة للتعبير عن ذاته وعن القلق والإبداع والشغف والسؤال الذي يمتلكه والذي يشكل تميّز الروح البشرية في سعيها الدائم نحو الخلق والمعرفة والابتكار ونحو الحرية في تقديم ذاتها.

رسومات الكهوف
قبل خمس وعشرين ألف سنة وجدت الرسومات على الكهوف التي شكلت السكن الأول للإنسان، وفيها صوّر الإنسان حياته كما كانت وذلك من خلال رسم الأشخاص والحيوانات وحالة الصيد التي كانت تشكل المصدر الوحيد للحياة. والغريب أنه برغم بدائيته استطاع ترك رسومات جميلة ولوحات حية ناطقة، وهذا دليل على التقدم الفطري لقدرة مخيّلة الإنسان ولقدرة أصابعه على نقل تلك المخيلة.
مع تطور حضارة الإنسان، تطور الرسم وتطورت كل أدواته، لكنه بالرغم من أن تغيّر العلاقات المادية والاجتماعية والطبقية والدينية جعله لفترات طويلة حبيس القصور وصور الملوك وحبيس الكنائس ودور العبادة، لكنه كان دائما يجد المنافذ التي تعيد له حريته ونبضه وتنقله من مجرد حالة تصويرية إلى حالة حسية عالية الرقي والصدق والدهشة.
وتطرح الجداريات دائماً تراث الشعوب وتاريخها وفكرها، فهي تحمل رسالة ثقافية في المقام الأول وأخرى جمالية، كما تعد الجداريات عملاً توثيقياً يسترجع أحداث الماضي والحاضر ويتأمل المستقبل. ونتذكر جميعنا الجداريات الفرعونية والإغريقية والرومانية والهندية والبوذية بشكل عام.

نوافذ الحرية والجمال
ولعل الرسم على الجدران هو أكبر مثال على هذه النوافذ لحريته ولجماليته وربما كلما كانت الجدران مرسومة بمكان ما كلما كان هذا المكان يعيش حالة أرقى من الديمقراطية والقدرة على التعبير. وقد تنوعت أشكال الرسم على الجدران، فمنها ما يسمى بالغرافيك، وهو على الأغلب تعبير عن آراء سياسية واجتماعية وحتى دينية مختلفة عن السائد وذلك عن طريق رسم الأحرف وكتابة الكلمات بطريقة فنية وبألوان وأشكال مختلفة تجعل المسافات الطويلة التي يقطعها المسافر أليفة بوجود هذه الرسومات على الجدران التي يمر بها القطار مثلا وتعيد للوحشة والوحدة التي تسكن الطريق بعضا من حميميتها، ولكن الأجمل حين تفاجئك لوحة ضخمة كاملة على جدار، جدار عادي حوّلته اللوحة إلى سماء ناطقة أو إلى فكرة حرة، حولته من أبكم إلى مغنٍ ومن حجر إلى قمر.

أشكال ترسم حياة مدينة
هنا في العاصمة الإسبانية مدريد، المدينة المليئة بكل أشكال الحياة، المليئة بحضارات الشرق والغرب، العرب والرومان، الإسلام والمسيحية، الحداثة والعراقة، الأضواء وظلالها، الأغنياء والفقراء، الملوك والغجر، هنا تباغتك اللوحات الجدارية المرسومة بإتقان وفنية مذهلين، والتي تجعلك تقف أمامها كثيرا، وتفكر في رسام لم يترك توقيعه، فقط ترك ألوانه ورؤيته صارخة ومتاحة لكل عابر، لا يسجنها متحف، أو صالة عرض فخمة، قدرة رائعة للإبداع البشري تعطيك مساحة من الدهشة والفرح وتجعل طريقك أجمل، لقطة حركية لخلط جميل بين التشكيلي والتعبيري ضمن حضور لوني قوي ومميّز تحيل الزاوية لعالم كامل.
ولعل ما رسمه أيضاً رسام الغرافيك العالمي البريطاني بانكسي على جدار أحد مخيمات اللجوء في فرنسا والتي تمثل المؤسس والمدير التنفيذي لشركة أبل، الراحل ستيف جوبز، وهو يحمل حقيبته الصغيرة ليقول لكل العلم إن المهاجرين قد يكونون السبب الحقيقي في إنقاذكم وأن بيل غيتس العقل الإلكتروني والتجاري الأول، كان يوماً ما ابناً بسيطاً جداً لمهاجر سوري في أميركا، لعل هذه اللوحة أيضاً هي أجمل الأمثلة على تأثير اللوحات الجدارية الناطقة بروح الناس.
أما اللوحات التي رسمها السوريون على جدران كفر نبل فهي ما يجب أن يهز كل أرواح وجدران هذا العالم الأصم ويعيد للسوريين أنفسهم الألوان الحقيقية لحياتهم المسلوبة من لون أسود واحد ومن طاغية بلا ظل.

المساهمون