هزّوا جذع الشجرة!

هزّوا جذع الشجرة!

11 سبتمبر 2015
(حسين بيضون)
+ الخط -
المدينة صفراء، قلتُ ناظرًا إلى الصوَر. وتذكرتُ ملصقًا مخزقًا لمسرحية بالقرب من مسرح أغلق. كان اسم المسرحية: "بيروت صفرا". لم أشاهد المسرحيّة. وكنتُ وقتها بعيدًا عن هذا "الجو". أخذتني سنوات كثيرة حتى أعرف ماذا أفعل. وهذه على الأرجح سمة في مدن تغلق مسارحها وأماكنها العامة واحدًا إثر آخر، وتدفعك للرحيل: أن لا تعرف، وأن ترحل لكي تعرف.

كيف يكتب أحدنا عن المكان؟ وكيف نكتب عن أنفسنا؟ وكيف نصير المكان ويصيرنا؟ لا أسئلة جديدة هنا، والكلام عن هذه الأشياء يبدو قد نفد. خلّصه كثيرون ممّن كتبوا وسطّحوا. وفي خضمّ طرح المعاد، يبدو في لحظة أنّ كل شيء مقلوب، وأننا قلبناه فجأة وصرنا نسلك إلى باطنه، وكلّما تقدّمنا تفاجأنا بما لم نتوقعه، أو بما توقعناه ولكنّنا لم نتوقعه على هذا النحو بالفعل. لكن ما هم. سنمضي على ما تقول أكثر من أغنية. وسنتقدّم لنهزّ قليلًا جذع الشجرة الميتة، وننتظر أن تساقط علينا بضع ثمرات. هل تحمل الأشجار الميتة ثمرًا؟ وهل ثمرها ميت؟

ما هم. الأهم أننا تصالحنا مع هذه "النحن" من دون أن نشعر بعقد الذنب التي كانت تمتلكنا كلما قلناها. لا وهم هنا عن النحن. مجرّد تصالح. خطوة أولى فحسب. جدال مع النفس انتهى بإيماءة وابتسامة. لا وهم.

كنّا في حلقة مفرغة، ننظر إلى كل الفجوات، ونحمي جمودنا بالقول إننا أمام شبكة معقّدة، وهذا صحيح. لكنّنا الصحيح أيضًا أنّنا لم نكن نتقدّم. والآن بدل الانتظار فقط، سنبدأ بالتقدّم ونبقي على الانتظار. لقد بارحنا على الأقل مطارحنا، ولم نحتمِ بالتعقيدات. سنتقدّم وننتظر، وننتظر ونقدّم. وسنسلك طريقنا إلى الباطن، إلى داخل الجحيم. هل هذا جحيم أصلًا؟ وهل يمكن للجحيم أن يكون مملاً إلى هذا الحدّ؟ هل يمكن أن يكون سمجًا إلى هذا الحدّ؟ هل يمكن أن يكون منعدم الإثارة إلى هذا الحد؟ هل يمكن أن يكون معادًا إلى هذا الحد؟ كيف نتفاجأ ولا نتفاجأ؟ وكيف يصعد كل هذا الحماس في لحظة إلى حلوقنا، فنختنق ثمّ يهبط فنرتاح؟ كيف نخرج من هذه القبضة التي لا آخر لها؟

بيروت صفرا. الغبار إلى جانبنا، كتب روجيه.
لقد أتى من سبقنا، الموتى والجرحى والضحايا. أتى الجميع ليساندونا وليكونوا إلى جانبنا، كتب طوني.

أتخيّل المقابر الجماعية تفتح، ويخرج من فيها، يسيرون جنبًا إلى جنب. أحدهم يعرف طريقه، وآخرهم يتعارك مع من يقف إلى جانبه. من قتل من فيهم؟ ومن فهم ماذا؟ وهل فهموا؟ وهل إذا ما قدر لهم الخروج، سيرحلون عنا أم يبقون معنا؟

المدينة مقلوبة. صفراء. وهذا الغبار يملأ الفراغ ولا يزيحه. هذا الغبار يحركش الملل ولا يبدّده. سنختنق قليلًا ونتحمّس، ونتحمّس ونختنق، فالحماسة وحدها تستحق. مخطئ من يداري الأمل كفرصة أولى وأخيرة. مخطئ من يجمّل يأسه بادعاء فرصة أخيرة. فالغبار معنا، والفراغ معنا، ونحن من الباطن سنحاول اختراق الباطن.

بيروت صفراء، ونحن نحاول الخروج.
هزّوا جذع الشجرة!

المساهمون