حبّ على الواتساب

حبّ على الواتساب

15 يونيو 2015
علاقات إفتراضية (Getty)
+ الخط -
كانت تراه أونلاين دوماً من دون أن يرسل لها كلمة. تتربّص بالخطين إلى يمين رسالتها حتى يتحوّلا إلى اللون الأزرق ما يعني أنّه قرأها.

ما إن يفعل حتى تدخل في مرحلة أخرى، مرحلة الردّ عليها. مع مرور كلّ دقيقة تزداد قلقاً، وما إن تظهر أمامها المرّة الأخيرة التي شوهد فيها على الواتساب، (لاست سين)، لتشعر بالمرارة ويتسرّب إليها ذلك الشعور بالمهانة. تؤلمها تلك التكنولوجيا التي حرمتها الغوص في خيالاتها الجميلة، وجعلتها ترى بأمّ عينيها لا مبالاة حبيبها.

تفكّر بالأيّام الغابرة حين كنّا ننتظر بها رسالة في البريد، ونرسم للحبيب صوراً وردية تتلاءم وأحلامنا. أرادت أن تجد له عذراً وتبرّر عدم إجابته عنها لانشغاله بأمور العمل. بيد أنّ الواتساب يؤكّد لها النقيض، فها هو يظهر مجدّداً، تتأمّل أن تطلّ كلمة "تايبينغ"، طباعة، على شاشتها الصغيرة التي أرهقتها؛ وهي تمعن النظر فيها، لكنّه يختفي مرّة أخرى.

ذلك الرّجل الذي اقتحم حياتها وانهال عليها بالرسائل النصية والاتصالات اليومية، ابتعد فجأة وتراجع اهتمامه بها، تلك الرسائل التي كانت تحرجها بين زملاء العمل لكثرتها، باتت شبه معدومة، بالكاد رسالة في الصباح وأخرى في المساء، أمّا اتصاله اليومي فتقلّص من ساعة أو أكثر إلى دقائق.

لطالما انتابها إحساس بالخوف من تلك الكيمياء القوية التي جمعتهما في فترة قصيرة، أرادت الابتعاد خوفاً من اختبار آلام الحبّ والهجران التي كادت تشفى منها.

اللقاء الأوّل بينهما كان أشبه بمشهد من فيلم رومانسي تمّ الإعداد له بدقّة. وصل قبلها بساعة ووقف ينتظرها بشغف، لم يبرح مكانه لاحتساء كوب من القهوة ريثما تصل، بل فضّل الوقوف هناك كي لا يفوّت ملامح وجهها لدى وصولها.

اقترب القطار من المحطّة التي اتفقا عليها. ارتبكت وهي تصعد السلم الكهربائي، أرادت أن تراه قبل أن تقع نظراته عليها. ابتسامته كانت في ذلك اليوم أقوى ذكرى التصقت في مخيّلتها وعجزت عن نسيانها.

استرسلت في التفكير لما ستؤول إليه الأمور، إلى أن قرّرت خوض المغامرة.
اعتقدت أنّه رجل صادق: "كلمتي تربطني"، هكذا أخبرها. شاءت أن تنطلي عليها كذبته. تجاهلت خبرتها في الحياة وتناست الدروس الأليمة التي مرّت بها، وثقت به. لم يكن مختلفاً عن رجل يخطّط للانقضاض على فريسته.

شيء ما في أعماقها كان يحذّرها ممّا سيلحق بها من أذى، بيد أنّها تجاهلت غريزتها وفضّلت الاستسلام لمشاعرها. كان أي لقاء يجمعهما يمتد لساعات. العلاقة برمتها كانت أشبه بحلم قصير تتشبّث به وترفض الاستيقاظ منه.

الواتساب بات همّها وشغلها الشاغل، تعرف تحرّكاته وتحلّل كما يحلو لها. إن ظهر أونلاين، فهو يتحدّث إلى امرأة أخرى وإن اختفى، فلا بد أنّه معها.

حاولت أن تشكو له تبدّله المفاجئ، فاتّهمها بالغيرة غير المبرّرة والسخف. ابتعد عنها وتجنّب لقاءها متذرّعاً باكتئابه من الضغوط المحيطة به تارة، وبالخوف من الارتباط بعلاقة جدية تارة أخرى، هو الذي يعاني من خيانة زوجته له كما أخبرها.

بقيت على تلك الحال لأسابيع، تحاول مراعاة ظروفه وإبعاد الغيرة عنها، حتّى قرّرت أخيراً وضع حد لتلك المعاناة. كتبت له:
"أرجو ألاّ تتصل بي أبداً بعد اليوم".

لم يقتصر الأمر على تلك العبارة بل انهالت عليه بكمّ من التّهم، التي آلمتها. استغلّ تلك الرسالة عذراً ليرحل كرجل نبيل. رجل أهانته امرأة وهو في أصعب أيّام حياته، يعاني مسائل الطلاق والمحاكم. 

لم يكن غريباً عليها نفاق الرجال أمثاله، ورسالتها تلك، كانت كمن يستعيد كرامته المهانة. محت رقمه من هاتفها ثمّ استقالت من مهنة مراقبة الواتساب التي أدخلتها في دوّامة وأهدرت وقتها. لم تكن تتذكّر من رقم هاتفه سوى الأرقام الثلاثة الأخيرة، فنحن في عصر لا نحتاج فيه إلى إعمال ذاكرتنا مع وجود هواتف ذكيّة تحفظها نيابة عنّا، وهذا أمدّها بالقوّة، فإن غلبها شوقها إليه لن تجد وسيلة للاتصال به.

بدأت باستعادة حياتها، وما هي سوى أيّام حتى ظهر رقمه على شاشة هاتفها، وكانت يدها أسرع من أن تمنعها عن الإجابة.

مكالمته تلك أعادتها إلى نقطة الصفر، أرادت محوه بيد أنّه كان يقبع هناك كديكتاتور يستمتع بقبضته على أحاسيسها. وامتهنت مجدّداً مهمّة مراقبة الواتساب.

المساهمون