الأغاني الدارجة.. تلويث ذوق السودانيين أم غيمة صيف؟

الأغاني الدارجة.. تلويث ذوق السودانيين أم غيمة صيف؟

05 مايو 2015
أغنية سودانية هابطة أم خفيفة؟ (Getty)
+ الخط -
في شوارع العاصمة السودانية، الخرطوم، ووسائل النقل المختلفة، وبين بيت وآخر، تتسرّب إليك أغنيات تردّد العبارات التالية: "لما شوفتو عاين لي"، "المحروق يروق"، "تقوم بينا العربية"، "راجل المرة حلو حلا"... الأخيرة تشير إلى تحبيذ الزواج من رجل متزوج، وهي نموذج على أنّ ما سبقها يقع أيضاً في خانة العبارات المحكية والأمثلة الشعبية، التي باتت عماد الأغنية الدارجة في السودان، يردّدها جيل من الفنّانين الشباب الجدد، وتلقى قبولاً عند شريحة كبيرة من الجمهور السوداني، تحديداً فئة الشباب.

وإن كانت مثل هذه الأغنيات الشعبية الخفيفة المضمون والمستوى الفنّي لطالما وجدت، في السودان كما في أي بلد آخر، إلا أنها ترافقت مع غياب كبير لأنواع الطرب السوداني وألوان الغناء الشعبي التقليدي الأصيل، وكأنّها اللون الموسيقي الوحيد في البلاد، ومفروضة بالقوة على مسامع جميع الطبقات الثقافية والاجتماعية.

وبينما تلقى الرواج في الأوساط الشعبية، وترافقهم في أيامهم وجميع مناسباتهم، يجد آخرون أنها خالية من أي مضمون، ويطلقون عليها تسمية "الغناء الهابط"، ويتّهمونها بالقضاء على أغاني "الحقيبة"، التي عشقها الشارع السوداني، وأصبحت جزءاً من ثقافته الموسيقية، كذلك تطغى على ما يسمى "أغاني البنات"، تلك التي ترتبط بالجلسات النسائية، تحكي عن مشاعر النساء السودانيات وعواطفهن، وهي لم تعد تجد مكاناً لها اليوم.
فهل هي خطر على الذوق العام بالفعل أم هي مجرد موضة ستنتهي قريباً؟.

تنتشر هذه "الأغاني الدارجة" بقوة في المناطق الفقيرة، حيث يكثر العاطلون عن العمل والمتسربون من المدارس.. لذا تلاقي استهجاناً من قبل الشرائح المتعلّمة والمثقّفة وكبار السنّ، ممّن يرون أنها ستدفع بالذوق العام إلى الانحطاط.
أحياناً تحمل درجة عالية من الفكاهة، ففي وقت سابق اشتهرت أغنية اقتبست من المسلسل التركي "مهند ونور"، الذي تابعه عدد كبير من السودانيين، خاصة شريحة النساء، لتعبّر كلماتها عن استحالة تطبيق العشق والحبّ الذي أظهره بطلا المسلسل في البلاد، وعلى من تعتقد ذلك زيارة طبيب يفحص سلامتها العقلية، إذ تقول الأغنية: "لو قايلة ريدتنا زي مهند ونور تبقي غلطانة ودايرة ليك دكتور".

ويجد مروّجو تلك الأغاني إقبالاً كبيراً في مناسبات الزواج والمناسبات السعيدة المختلفة، إذ عادة ما تصحبها موسيقى سريعة الإيقاع تشجّع على الرقص.
تقول رماز، ابنة الـ21 عاماً، لـ"العربي الجديد"، إنها تعشق ذلك النوع من الغناء، وتتمايل معه بسعادة، ترفض تسميته بالهابط: "يعبّر عن واقع حقيقي، بكلمات سهلة، فيها نوع من النكتة، إيقاعها سريع، فليس لديّ وقت لأسمع أغنيات طويلة وكلمات صعبة".
محمد، أحد شعراء هذه الأغاني، يؤكد لـ"العربي الجديد"، أن رواجها يعود إلى كونها تنبع من قلب المجتمع، والمجتمع نفسه فرض على الفنانين ذلك النوع من الغناء ويتحمّل الجميع المسؤولية. ويضيف: "عموماً ذلك النوع من الأغاني لا يعيش طويلاً".

لكنّ وتيرة انتقاد موجة "الغناء الهابط" ارتفعت أخيراً في أوساط المثقفين السودانيين والتربويين، فهناك من ينظر له كمهدد للأمن الثقافي ولقيم وأخلاق المجتمع، كما ينظر له كسلوك مخالف لتقاليد المجتمع، مثل تفضيل الزواج من رجل متزوّج على العازب، ويصفون الكلمات بالسوقية، ويعيدون السبب إلى تحوّل المواطن لمستهلك أعمى لكل ما هو رخيص، كما يعيد البعض السبب إلى الحروب التي سبّبت تشرذماً روحياً وأفقدت العقل الجمعي توازنه.

يفضّل الموسيقار عثمان محي الدين أن يستعمل عبارة "غناء قاع المدينة"، وليس الغناء "الهابط"، لأنّ بعض الفنانين الكبار في أجيال سابقة تغنّوا بذلك النوع من الغناء في تسجيلات قديمة، ولكنّها كانت في جلسات خاصة، ويرى أنّ انتشاره أخيراً يعود لأسباب اقتصادية وسياسية، الأمر الذي خلق سوقاً كبيراً له مع غياب وسائل محاربته، ويضيف: "الحكومة طيلة الفترة الماضية أهملت الثقافة، حتى أن وزارة الثقافة نفسها ومنصب الوزير فيها يرضخ للترضيات السياسية".

أما المغنية الشابة، غادة حسن، فتقول لنا: "لا يوجد شيء اسمه "الغناء الهابط"، وإنما ركاكة الكلمات وطريقة الأداء، الجمهور عموماً أصبح يميل إلى الأغاني التي ترقّصه والكلمات البسيطة، وهناك قسمان من الفنانين، أحدهما يريد تقديم ما يطلبه الجمهور بغض النظر عن تعارضه مع الشروط الفنية الجيدة، بينما يرفض قسم آخر ذلك، ويشدّد على ضرورة أن يرتقي الفنان بذوق الجمهور ويقودهم، لا أن يتركهم يقودونه، وأن يكون الغناء رسالة وليس مجرد وسيلة لجني المال. وأنا مع الفئة الثانية".

ويرى الباحث الاجتماعي، معاوية الطيب، أنّ الثقافة والفنون يتوجّهان مع اتجاهات الحياة المختلفة، ويمثّلان عنصرين أساسيين فيها: "أي تطور سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يؤثّر مباشرةً في الفنّ، رقيّاً أو انحطاطاً"، ويضيف: "صحيح أن الأغاني السطحية أصبحت مرغوبة، وهذا ضمن تغيير طرأ في أشياء كثيرة في المجتمع، حتى في نوعية العلاقات، فغابت العميقة وحلّت محلها السطحية والافتراضية. فالمجتمع أصبح يميل لكل ما هو سهل. وما زاد الأزمة تعقيداً هو وسائل الاتصال الحديثة، من فيسبوك ووتسآب وفايبر... مستقبلاً ستكون لها آثار خطيرة على المجتمع، وستسهم بشكل سالب في الذوق العام".

وتقول أستاذة علم الاجتماع في جامعة النيلين، أسماء محمد جمعة، لـ"العربي الجديد"، إن الأغاني الهابطة أو صاحبة اللغة الركيكة، هي عبارة عن كلمات بسيطة، تعبّر عن إحساس أي منّا، وتتحدّث بلسان حال الناس، لذا يتقبّلونها بشكل أكبر، لا سيما الجيل الجديد، الذي يميل عادة للإيقاعات السريعة في كلّ شيء، وتوضح: "هي أغنيات يمكن أن تُسمع بشكل سريع وتحت أي ظرف، بعكس الأغاني الطويلة الكلاسيكية، فهي تتطلّب مزاجاً وسلوكاً معيّناً".

المساهمون