طفلي مع الغرباء

طفلي مع الغرباء

02 مايو 2015
حضن الوالدة الدافئ (Getty)
+ الخط -

رافقت ابنها لتسجيله في المدرسة، كانت سعيدة لبلوغه ثلاث سنوات، فخوفها عليه من عبث أياد غريبة في تربيته، منعها من إيداعه في حضانة أو تركه لخادمة أو أي امرأة أخرى للاهتمام به. اليوم يحق لها أن تلتفت إلى أحلامها. قدّمت طلب وظيفة معلّمة في المدرسة ذاتها التي سيرتادها ابنها، كونها أرادت أن تبقى قريبة منه.

راودتها مخاوف لانعدام خبرتها العملية، هي التي تزوجت خلال دراستها الجامعية وأنجبت وركنت إجازتها في إحدى زوايا المنزل لما يزيد عن أربع سنوات، لكن رغبتها الشديدة في الخروج من قوقعة ربّة المنزل أمدّتها بالقوّة.

شغفها في خوض حياة جديدة خارج أسوار المنزل، وإصرارها على قدرتها على التوفيق بين مهنتها وعائلتها، أبعدا عنها الملل الذي عانته في بلد غريب، حيث لا أهل لها ولا أصدقاء. لم تكد تبدأ الوظيفة التي أجلتها سنوات ريثما يشتد ساعد ابنها، حتى أدركت أنّها حامل من جديد.

ابتسمت حين أبلغها الطبيب بذلك، لا شعورياً سيطرت غريزة الأمومة عليها. التفت إليها زوجها وقال لها: "يعني ما في شغل، راحت الوظيفة، بس لا تزعلي إذا بدّك تعملي إجهاض ما عندي مشكلة".

ردّت بعفوية سريعة: "إذا الوظيفة بدها تطير خلّيها تروح، أنا بدي أخت أو أخ لابني، ما بدي يبقى وحيد".

كان زوجها يدرك مدى رغبتها في الخروج إلى العالم الأوسع وحبّها لإثبات ذاتها، وحاول إقناعها بالعدول عن رأيها حتى صرخ في وجهها: "عم تدمري حالك، إذا بدّك تنتظري بعد أربع سنين ما بقى حدا يوظفك".

بقيت صامتة، شاردة الذهن تفكّر في حياتها كامرأة أو كأم، وتساءلت إن كان قرارها صائباً في البقاء إلى جانب طفلها وانعدام ثقتها بتسليمه إلى غرباء في سنواته الأولى حين يعجز عن التبليغ عن أي إساءة أو ضرر قد يلحق به.

كانت على قناعة تامّة بأنّها على صواب، حتى انتابتها الشكوك عقب نبأ الحمل. هي تدرك تماماً أنّ الطفل الثاني لن يحظى بها إلى جانبه طوال الوقت إن هي أرادت الاستمرار في العمل. فجأةً، تبدّلت نظرتها إلى تلك الأمّهّات اللواتي يتركن أطفالهن للخادمات ودور الحضانة ويتوجّهن إلى أعمالهن. أصابها وخز ضمير من انتقادها الشديد لهنّ في السابق. أدركت أنّ الأمر لا يقتصر على تنشئة طفل واحد والتضحية بطموحات وأحلام كل منهن ليس مجرّد سنوات معدودات، بل قد يكون القضاء على أي أمل لهن في العمل.

مرّت الشهور، وجاء الطفل الثاني. وما أن أنهت إجازة الأمومة حتى تركته مع والدتها التي كانت قد خطّطت لدعوتها إلى تلك البلاد للاعتناء بصغيرها ولو لشهر واحد، وما أن غادرت أمّها، حتى وصلت حماتها. امرأتان تثق فيهما أكثر من ذاتها للاعتناء بالغالي الصغير. قبل أن يحين وقت رحيل حماتها، بدأت تشعر بالتوتر. كانت تصارع مخاوفها وانعدام ثقتها في الغرباء، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بطفل بريء.

لم تشأ تقديم استقالتها، ورفضت الاستسلام لتلك الشكوك، وحاولت أن ترسم صورة وردية لدور الحضانة والعاملين فيها، كما عجزت عن التخلّي عن صغيرها لمربية تنفرد به في المنزل، حيث لا رقابة ولا محاسبة. وبجهد بالغ، أقنعت ذاتها بأنّ دور الحضانة تبقى المكان الأفضل، حيث هناك العديد من الأشخاص المتخصصين، ولا يمكن إهمال طفلها في تلك الأماكن، كونها تحت المراقبة. حاولت في أعماقها التخلّص من تلك الشهب السوداء التي كانت تخنقها كلّما فكّرت فيما قد يتعرّض له صغيرها، لكنّها كانت تهدأ حين تمر لاستلامه بعد الدوام وتراه مبتسماً هانئاً.

غاب عن بالها أنّ المربيات يعلمن وقت قدومها ويتهيّأن لاستقبالها والطفل على أحضانهن يلهو، إلى أن عانى ذات يوم من ارتفاع بسيط في الحرارة، فتقرّر أن يبقى والده إلى جانبه في المنزل. لكن المخطط تغيّر، ما اضطرّ الأب إلى إيصال الطفل إلى الحضانة لأمر طارئ.

تركت المدرسة فور إبلاغها بالأمر، حتى قبل انتهاء دوامها الرسمي. قادت سيّارتها بسرعة، وهرعت إلى الحضانة، كان صراخ وبكاء طفلها قد وصل إلى مسمعها في موقف السيارات، جرت بخطوات متعثرة وسريعة إلى الداخل، رأته هناك يبكي بحرقة ولا من يبالي، انعصر قلبها وصرخت فيهنّ وأخذته مهدّدة. لكن الحياة كانت قد فرضت عليها الاستمرار في الطريق الذي اختارته.​

المساهمون