عندما كانت المدرسة حلماً

عندما كانت المدرسة حلماً

01 مايو 2015
أرغمت على ترك مقاعد الدراسة (Getty)
+ الخط -


كانت تتأبط عود حطب جاف كباقي تلاميذ مدرستها في القرية، تحمله وتسير به في الثلج والصقيع، ليكون ذخراً يضاف إلى كومة الحطب، زادُ الموقدة التي تدفئ الصغار خلال يومهم الدراسي.

كان عود الحطب رابطاً مهماً بينها وبين مدرستها التي أحبتها وبرعت فيها، والذي استمر لخمس سنوات فقط، لأنّ الرابط انقطع عندما وصلت إلى الصف الخامس الابتدائي.

خذلتها مدرسة القرية لأنها كانت ابتدائية فقط، وخذلها جنسها لأنّها فتاة، وحاربتها الظروف التي لم تكن لتسمح لها بالانتقال إلى مدرسة أخرى بعيدة. توقفت عن الدراسة، وابتعدت عن الحساب والقراءة قسراً. بيتها بيت فلاحين، لا يشترون الكتب ولا يقرأون الصحف.

مرّت الأيام، وكبرت الفتاة، وزوّجها أهلها عند بلوغها السادسة عشرة. كان زوجها يكبرها بواحد وعشرين عاماً. كان يعيش ويعمل في بيروت، هو "ابن المدينة"، وهو واقع جديد لم تختبره من قبل، كما أنّه كان يقرأ الصحف اليومية ويقتني الكتب، فكان الأمر فرصة ذهبية لها.

وجدت نفسها تستعيد نهم القراءة من جديد، تنهي أعمال المنزل اليومية، وتنهل من الكتب الموجودة في مكتبة المنزل بانتظار عودة زوجها من عمله. احتوت المكتبة كتباً في السياسة والتاريخ والرواية ومجموعات قديمة من دوريات ومجلات شهرية وأسبوعية. رزقت بأربع بنات، ولم يوقفها ذلك عن القراءة.

كانت تزوّد مكتبتها بالجديد كلما سنحت الفرصة. ومن حظّها، أنّ منزلها كان بالقرب من جامعة بيروت العربية. ففي أواخر ستينات القرن الماضي وبداية السبعينات، اعتاد باعة الكتب والصحف على افتراش الأرصفة المقابلة للجامعة بكل ما لديهم من قديم الكتب وجديدها، فوفّرت تلك البسطات لمكتبتها مخزوناً إضافياً.

كانت تتابع دروس بناتها منذ دخولهن المدرسة وحتى وصولهن تباعاً إلى صف الشهادة المتوسطة. وكانت تفخر بقدرتها على تعليمهن وتقول لهن "لو خلوني كفّي علمي، كنت عملت معلمة".

تعرّفت بناتها باكراً وبفضلها، على مجلات روز اليوسف وآخر ساعة وحواء وريدرز دايجست التي كانت تصدر باسم المختار، إضافة إلى مجلة العربي الكويتية، وكانت نصيحتها لهن عندما صرن بعمر المراهقة بأن يقرأن روايات جرجي زيدان، فقد كانت تحتفظ بالمجموعة الكاملة بنسختها الأصلية التي أصدرتها دار الهلال المصرية.

لكنها كانت تمنع عنهن بعض الروايات وتقول:" بعدكن صغار"، وضمت قائمة الممنوعات، روايات إحسان عبد القدوس مثل النظارة السوداء، الوسادة الخالية، لا أنام، شيء في صدري وفي بيتنا رجل. كذلك روايات نجيب محفوظ، ومنها، بين القصرين، زقاق المدق وأولاد حارتنا.

سمحت لهن بقراءة كتب جبران خليل جبران ومنها الأجنحة المتكسرة ودمعة وابتسامة وعرائس المروج، وكتب ميخائل نعيمة ومارون عبود، وغيرهم. ولم تخل مكتبتها من الروايات العالمية المترجمة للعربية، ومنها، ذهب مع الريح، أحدب نوتردام، كوخ العم توم، الأب غوريو، الزنبقة السوداء، الأم، أهوال الاستبداد، أنا كارنينا، غيرها، كما أنها اقتنت ديواناً شعرياً لأعمال نزار قباني الكاملة. بدأت الحرب وتهجّر الناس باتجاه قراهم، فعادت إلى القرية مرغمة، لكنها أخذت كتبها معها. شغلتها الظروف والأيام عن القراءة لكنها كانت تستعير ما يمكن استعارته من الكتب عندما يكون ذلك متاحاً لها.

مع اشتداد الحرب وتعطل الدراسة في كثير من الأحيان، وعندما كانت وزارة التربية تلغي الامتحانات الرسمية حيناً أو تخفض معدلات النجاح أحياناً أخرى، لتقطّع السبل وعدم إمكانية التنقل بين المناطق نحو مراكز الامتحانات، كانت تجد في الأمر فرصة للانتساب لامتحانات الشهادة المتوسطة.

ولكن عندما تجرأت وأفصحت عن هذا الحلم، صار كل من حولها بدءاً من زوجها وأقاربها، يقولون لها، "بيضحكوا عليكِ الناس". حاولت إقناع زوجها، لكن محاولاتها باءت بالفشل. كانت تقول بشغف: "بتمنى سجّل اختصاص تاريخ بالجامعة، بعشق التاريخ". دفنت أحلامها وقمعت رغباتها. لم تعش كثيراً، كانت في الخمسين من عمرها عندما اشتد عليها المرض وماتت، لكن كتبها لا زالت موجودة تشهد على طموحها وأمنيتها بنيل شهادة لم تتحقق.

اقرأ أيضاً:مدرسة للضحك في أثيوبيا وللحوامل مجاناً

المساهمون