القاشوش وابتسامة أبي

القاشوش وابتسامة أبي

13 مارس 2015
ارحل يا بشار (Getty)
+ الخط -
الموتى لا يبتسمون. تلك هي قناعتي. حاول أخي التلميح إلى ذلك خلال عملية غسل جثمان أبي. اشحت بنظري بعيداً رافضاً تصديق ذلك. هي عضلات الوجه التي ترتخي بعد الموت فقط .
كمعظم البيوت البيروتية، تصدّرت صورة عبد الناصر لفترة طويلة غرفة الجلوس. زيّن أبي المكتبة بلوحة لغسان كنفاني، وأخرى للمسجد الاقصى. كان أبي يحب الاستماع لأم كلثوم في "أصبح عندي الآن بندقية "، و"ثوار"، وغيرها من الأناشيد. أحفظ تلك الأبيات جيداً. قال لي ذلك ذات يوم وهو يقدم مخطوطة، دوّن عليها شعر ساطع الحصري "بلاد العرب أوطاني".


روى أبي لنا أنّ رجلاً مهماً في منظمة التحرير الفلسطينية، سكن معنا في نفس المبنى. قبل الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 بـ 6 أشهر، دق باب منزلنا قبيل منتصف الليل. كان الرجل يودع أبي قائلاً: "ستجتاح اسرائيل هذا البلد، جنون مني أن أبقى هنا وعائلتي". أيقن أبي أنّ الرجل صادق فيما يقوله. صافح الرجلان بعضهما ومضى الفلسطيني باتجاه المصعد. قبل أن يغلق الباب خلفه، سمع أبي الرجل يقول بلكنته النابلسية: "يلي ما بخفش الله، يخاف النظام السوري".

عاش أبي مؤمناً بمقولة الرجل فعلاً لا قولاً. لم ينس اللسعة السورية التي أصابت الحركة الوطنية في لبنان، خلال الحرب الأهلية بين عامي 1976-1977. شاهد بأم العين جنوداً سوريين يهربون في حرش جبلي، خلال الاجتياح عام 1982. كانوا يشتمون القيادة التي تركتهم في عراء الحرش للطائرات الاسرائيلية، كي تحصدهم بالعشرات. قصد مكتب ضابط المخابرات السورية في بيروت عشرات المرات، محملاً الهدية تلو الأخرى ليكفً الرجل الامني عن ملاحقة عمي عام 1985. حين هجرنا منزلنا عام 1989 جراء "حرب التحرير" بين الجيش اللبناني بقيادة ميشال عون والجيش السوري. اضطر والدي لدفع مبلغ من المال لأمر دورية من الجيش السوري كي يجنّب بيتنا السرقة.

كان أبي يتخلى تدريجياً عن معتقد تلو الآخر مع كل هذه الأحداث. اختفت صورة عبد الناصر تليها صورتا الأقصى وكنفاني. حلّت حلقات الطرب مكان النشرة الإخبارية التي كان ينتظرها. "يلعن أبو العروبة وساعتها"، قالها مرة بقهر، وهو يشاهد اجتياح العراق، كأنه اعتزل السياسة دون أن يعلن ذلك. في كل منعطف تاريخي عربي كان الصمت سيد الموقف لديه. يهز رأسه ويقول بلهجة الرجل النابلسي: "يلي ما بخفش الله، يخاف النظام السوري".


مرّ كل هذا وأنا أنتظر في ردهة المستشفى خلال عملية غسيل جثمان أبي. حملت محفظته وجوّاله حتى خرج صوت القاشوش منه على ايقاع نغمة "يلا ارحل يا بشار". ابتسمت لفكرة أنّ والدي كان يحسن تنزيل الأغاني. أغلقت السماعة ودخلت غرفة غسيل الموتى.
الموتى لا يبتسمون. تلك هي قناعتي. حاول أخي التلميح إلى ذلك خلال عملية غسل جثمان أبي. اشحت بنظري بعيداً رافضاً تصديق ذلك، هي عضلات الوجه التي ترتخي بعد الموت فقط. لكن نغمة "يلا ارحل يا بشار" صدحت مجدداً من الجوال، وأبي المجثى على لوحة غسيل الموتى كان يبتسم حقاً.

المساهمون