القفزة العظيمة: ستيفن هوكنغ قاهر المرض

القفزة العظيمة: ستيفن هوكنغ قاهر المرض

12 فبراير 2015
ستيفن هاوكينغ
+ الخط -
يبدأ فيلم "نظرية كل شيء"، الذي فاز، قبل أيام، بجائزة "بافتا"، أرفع الجوائز السينمائية البريطانية، بلقطة لستيفن هوكنغ، عالِم الفيزياء الانجليزي، وهو يقود دراجته الهوائية، مع زميله في السكن، إلى أحد مرافق جامعة كمبردج. التاريخ عام 1963. عمره 21 عاماً بالضبط. هناك حركة مبهجة. ووعود تعوِّل على الزمن كي تتحقق. نرى لفيفاً شاباً، يعج بعلماء المستقبل. بيد أنهم لا يزالون، في تلك اللحظة، مجرد طلاب لا يعرفون إلى أين ستتجه خطاهم، وماذا سيقدمون للبشرية من اختراقات علمية.

أبرز هؤلاء، من دون شك، شاب نحيل، خجول، بنظارة طبية سميكة. يتقدم الفيلم قليلاً بتعرّف ستيفن هوكنغ إلى مَن ستكون رفيقة حياته الأولى: جين. لكن ليس بعد. فهذه هي اللحظة الأولى للقائهما الذي سيقهر التوقعات الطبية والاجتماعية. يقدِّم نفسه لها على أنه عالم. لا كما توحي كلمة "علم" للوهلة الأولى، إذ إن "علمه" يصبو إلى معادلة موحّدة تشرح كل شيء في الكون. كما لو كانت ديناً ولكن ضد الدين. تسأله: وما هي هذه المعادلة؟ فيقول، على طريقة هاملت: هذا هو السؤال.. ثم يضيف: وأنا عازم على معرفة ذلك!

سأترك الفيلم جانباً، لأنه ليس هدفي هنا.. ولكن ليس قبل الاشارة إلى كلمة قالها أول أستاذ يقابله في جامعة كمبردج لهوكنغ بعدما رأى معادلة له جعلته يُذْهَل. يقول أستاذه إن المدهش في حقل العلوم عدم معرفة المرء من أين تأتي القفزة العظيمة.. التالية.
ستيفن هوكنغ هو هذه القفزة في العلوم، بعد قفزة عظيمة حققها العلم مع آينشتاين.



أول الطريق

بدءاً من دخوله جامعة كمبردج، سيلفت ستيفن هوكنغ نظر أساتذته. فهم حيال عقلية لم يعرفوها من قبل. يتسابق عقل هوكنغ مع تشخيص مرضه وهو في أول مشواره الاكاديمي، وبعد فترة قصيرة من تعرفه إلى حبيبته وزوجته الاولى جين التي يستند الفيلم إلى كتابها عنه. أكان العقل هو الذي هزم المرض القاتل أم الحبُّ؟ الاثنان. فلم يكن العقل في جسدٍ يضمرُ سريعاً كافياً لقفزة العقل الكبيرة لولا وجود محفِّز قد يكون أقوى من أيّ دافع مجرد: الحبّ. فبهذا العقار الذي لم (ولن) تخترع المخابر أقوى منه وأكثر نجاعة، يمكن لهوكنغ أن يقهر المرض. شلل الأطراف. تلعثم اللسان. انعدام الدافع للنهوض من النوم كل صباح. الحبُّ هو الذي يفعل ذلك في الفيلم المستند إلى سيرة حياته، والحبُّ، في هذه الحالة، هو جين التي تقول له، بعد تشخيص مرضه الذي لم يوارب طبيبه في ما بقي له من أيام على قيد الحياة: إن لم تنهض وتلعب معي (كريكت) في الخارج لن أعود الى هنا مرة ثانية. لن أعود أبداً (الفيلم). الحبُّ هو الإكسير الذي ضخَّته جين في شرايينه، جعله يقوم ويلعب بيدين وقدمين مهزوزة وجسد لا يكاد أن يضبط توازنه.

النظرية

قلما ارتبطت نظريات فيزيائية في أيامنا، بالحياة اليومية للناس والأسئلة الخالدة، المحيرة، حول الزمن والكون، كما فعل هوكنغ في كتبه وأبحاثه وشخصه المثير للجدل والإعجاب معاً. من أين جئنا؟ كيف انوجد الكون؟ هل نحن وحدنا في الكون؟ ما هو مستقبل الجنس البشري؟ هي أسئلة أساسية طرحها هوكنغ. وعلى الرغم من رفضه الدين، وعدم ربطه الكون (أو الأكوان) بقوة أعلى غير نفسه وقوانينه، فإن نظرية كل شيء المرتبطة، اليوم، باسمه أشبه ما تكون بالدين التوحيدي الذي يُراد له أن يجمع، ويغربل، وينتقي، الأديان السابقة عليه في دين واحد! تناقض؟ أكيد. لهوكنغ مواقف متدرّجة من علاقة الكون بقوة أعلى منه، ففي كتابه الشهير "ملخص لتاريخ الزمن"، الذي بقي خمس سنوات متواصلة على لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في صحيفة "التايمز" اللندنية، يترك الباب موارباً على هذه النقطة، حتى يعود ويغلق الباب عليها، تماماً، في كتابه "التصميم العظيم". فهو يرى أن الكون (الأكوان) خلق نفسه بنفسه بفضل قوانين فيزيائية، وسيظل قادراً على فعل ذلك. فهو ليس بحاجة إلى قوة أعلى ليوجد من عدم ما دامت هناك قوانين فيزيائية، مثل قانون الجاذبية. تلقت نظرية كل شيء نقداً أكاديمياً ودينياً حاداً وصل الى حد "المسخرة"، واعتبارها حركات سيرك وبحثاً يائساً عن الإثارة، بل ثمة في بريطانيا مَن اعتبر كلامه هذا خطيراً على مستقبل الفيزياء في البلاد، إذ إن الحكومة قد تقلّص دعمها للأبحاث الفيزيائية بضغط من الجمهور المستاء من نظرية هوكنغ!

في كل الأحوال، لا يمكن اختصار هذه الظاهرة العلمية، والمعجزة البشرية، في ما سبق. تكفي معرفة أن الطب حدَّد عامين لحياته بعد تشخيص إصابته بمرض عصبي لا علاج له.. وها هو يعيش نحو نصف قرن بعد إصابته بذلك المرض الذي أقعده، ثم شلَّه تماماً عن الحركة والنطق. وبدل أن يكون قد وضع بعض الأبحاث التي لم تكن سوى خطاه الأولى استطاع، من قلب العجز الجسدي الكامل ومحنته الوجودية، أن يراقب الكون، وأن يؤسس لنظريات ثبتت علمياً، وأخرى ظلت في حيّز الشطح النظري.

المساهمون