حلم "باسم شيت" العبوس

حلم "باسم شيت" العبوس

03 أكتوبر 2014
الناشط الراحل باسم شيت (العربي الجديد)
+ الخط -
لا مجال للثورة في لبنان. هذا ليس استنتاجاً، ليس تحليلاً، هذا هو المستحيل عينه، الثورة هنا مستحيلة.
دفع الليبيون آلاف الأرواح ثمناً لإسقط نظام القذافي. التونسيون أوقدوا شعلة البوعزيزي للتوجه نحو نظام فاسد واضح المعالم. نظام مبارك كان سلسلة من الحلقات القائمة على فساد رجال الأعمال كأحمد عز وغيره. فساد تضمنه سلطة البلطجة كحبيب العادلي، وصفوت الشريف. اليمنيون أدركوا رأس الهرم وزحفوا إليه. السوريون ما زالوا يواجهون أخطبوطاً عسكرياً صارماً مثلث الأضلاع؛ كأنهم يواجهون العالم كله. قد تكون الثورة السورية هي ثورة على شياطين الأرض كلها. أما في لبنان فكنّا سنواجه الآلهة!

سيسجل التاريخ يوماً أننا حاولنا الثورة على آلهة من 18 طائفة. كل طائفة تقدس زعيمها، لكل زعيم حزب، ولكل حزب تبعية خارجية، ولكل تبعية مال ونفوذ ومؤسسات. كنا أمام سبعة أو ثمانية زعماء يزين جمهورهم أسماءهم بشعارات القداسة. كنا نحلم بثورة على القداسة.
بعد سقوط نظام مبارك تداعى بضعة شبان لبنانيين للمحاولة. كانت الحماسة قد بلغت أوجها تحت مبنى السفارة المصرية. هرول أحد الشبان بلحية حمراء، وقبض على العلم المصري صارخاً: المجد لـ25 يناير. لم يترك الشاب طوال فترة ثورة يناير محيط السفارة. كان وجه ميدان التحرير حولها. جلس الشاب في حلقة نقاش داخل غرفة صغيرة، في إحدى مقاهي العاصمة. كانت الاقتراحات تنهمر من الشباب، وهو لا يفوت واحداً منها. راح يسجل على دفتر صغير الملاحظات. قطّب حاجبيه خلف نظارات سوداء، وراح يستعرض أسس النظام اللبناني وتركيبته الطائفية.

حين أطال الشرح، سُئل عن سبب السرد المفنّد. أجاب عاقد الحاجبين دوماً: اعرفْ عدوّك. هذا النظام عدو، هذه الدولة عدوة لشعبها. حفظ من حضر النقاش اسم الشاب. ذاك الغاضب كان نقيض اسمه. هو باسم.

تفجّر غضب باسم في الاجتماعات اللاحقة. كان ممثلو الأحزاب العلمانية قد قرروا المشاركة في التظاهرة الأولى لإسقاط النظام الطائفي اللبناني في 27 فبراير/شباط 2011. وقف باسم بقوة أمام طرحهم بادىء الأمر، معتبراً أن الأحزاب العلمانية الموجودة تستمد قوتها ونفوذها من الأحزاب الطائفية. كلنا كنا ندرك ذلك، خاصة أن كل تلك الأحزاب تشارك في الانتخابات البرلمانية المبنية على أساس مذهبي. ديمقراطية النقاش سمحت لتلك الأحزاب بالمشاركة. باسم استكان للأمر شرط ألا ترفع تلك الأحزاب أعلامها وراياتها. وافق أصدقاء باسم والشباب الذي مشى التظاهرة الأولى تحت المطر. مشوا باسم واحد لحلم واحد ولهدف واحد. دوّى صوت باسم ورفاقه لأول مرة في لبنان "الشعب يريد إسقاط النظام". غابت رايات الاحزاب التي رفعت يوماً فوق خطوط التماس في الحرب الاهلية. الأحزاب التي تقاسمت ثروات لبنان ومزقت مجتمعه وقفت متفرجة على مغامرة نحو المجهول من أسماء مجهولة. أسماء غاضبة وفيها باسم. الباسم كان يبتسم لأول مرة منذ طرح فكرة الثورة في لبنان. مشى تحت الأمطار الغزيرة ورفاقه يغنون للثورة وللحلم وللوطن. كان باسم يغني. صوت باسم حين يغني كان مضحكا لكنه بدا الأقوى. غضب باسم خلف نظاراته من فساد النظام كان سرّ قوة صوته.
قوة باسم كانت غريبة. إصراره كان غريبا. لم يكن باسم صاحب الثقافة الواسعة، الذي يتجاوز صعوبة المهمة بالحلم. كان محاولاً أكثر من كونه حالماً. مجتهداً أكثر من عارف بجدوى الخطابة وأصول الكلام. غاضباً أكثر من غضبة الاحزاب المذهبية على الجمع الثائر. غضبة تلك القوى التي تغلغلت شيئاً فشيئاً في الحشد لم تثنِ باسم. رسم اللافتات وأطلق الشعارات وهتف للناس التي وقفت على شرفاتها، تراقب أكبر تظاهرة علمانية في 20 مارس/آذار. أكثر من عشرين ألف لبناني اندفعوا خلف حلم باسم ورفاقه.

انتهت الثورة باللاثورة. أجهض أخبثُ الأنظمة وأقواها عربياً على الإطلاق حلم الشبان. عدنا إلى المنازل بألف سبب للهزيمة. تناهشت الأحزاب الحشود وعدنا كمشجعين للثورات العربية. باسم لم يعد، لم يخرج من الشارع. وقف خلف جريدة الثورة الدائمة يكتب وينتقد. لم يفوت الثورة، ولم تفته بدورها. في كل ثورة عربية كان باسم حاضراً. في كل تظاهرة نقابية كان حاضرا. في كل تظاهرة مطلبية كان حاضرا. المعلمون، مياومو الكهرباء، لم يتخل باسم عنهم. لا يعرف الشاب الملقب بتروتسكي السكينة خلف هزيمة المحاولة. وجهه الغاضب كان ثورة. كلماته في الفيسبوك كانت ثورة. حلم باسم ثورة.

لم تنجح الثورة في لبنان. لم يسقط البوعزيزي، ولا مينا دانيال ولا غياث مطر. سقط قلب باسم. سقطت نظاراته السوداء على الأرض وتوقف نبضه في منزله. رحل كما حلمه فجأة. كانت الغضبة الأخيرة لشاب حاول أن يصرخ "لا" في وجه أعتى الزعماء الذين شهدتهم الطوائف اللبنانية. كانت الغضبة التي لم نفلح في تحويلها لثورة من نار. كانت غضبة لأجلنا.

رحل باسم من دون ثورة. رحل شاباً لبنانياً يشهد له أنه أسقط أعلام الأحزاب اللبنانية في قلب العاصمة ذات يوم. أسقطها ورفع حلم الثورة. حلم توقف نبضه في وجه عبوس، قد يعيش في وجوه رفاقه يوماً. قد نعود إلى الحلم لو أدركنا غضبة باسم.

 

المساهمون