زياد الرحباني مسرحيّةُ نفسه

زياد الرحباني مسرحيّةُ نفسه

11 أكتوبر 2014
الفنان زياد الرحباني (تصوير: زكريا جابر)
+ الخط -

تكمن شهرة الفنان زياد الرحباني في موسيقاه ومسرحه. التقدير الذي حظي به دوماً كان لفنه، لا لآرائه السياسية ولا لسيرته الشخصية، ولا لما يبدر عنه من تصرفات وسلوكيات تثير الجدل. إذاً، نحن لا ننحو هنا لنزع التقدير عن إنجازاته، ولا لتبخيس فنه أو تهفيت أعماله.

لكن ولا مرة كان فن زياد الرحباني منفصلاً عن الموقف السياسي، عن رأيه في الحدث السياسي، وعن قناعاته الأيديولوجية. بل إن زياد ما كان ليجد "طريقته" موسيقى ومسرحاً، متمرداً على المؤسسة الرحبانية، ومجدداً لها ووريثاً أولاً لها في آن، لولا خروجه أيديولوجياً عليها ونقد خطابها الرومانسي، ونقل مركز استلهاماتها من الريف إلى رصيف المدينة. لقد أعاد صوغ خطاب "الرحبانية" ولغتها انطلاقاً من قطيعته السياسية معها.

بل يمكن القول أن وعيه السياسي كان الدافع الأول له، في خياراته الموسيقية العابرة للفلكلور المحلي، والمتجاوزة للهوية (الدينية أو "الوطنية")، وفي الإنحياز نحو لغة مدينية شعبية وشوارعية. وهو الوعي الذي سينقض مسرح النوستالجيا المتوهمة الرحباني، نحو مسرح الآن والهنا ومن قاع المدينة وهوامشها.

على هذا استطاع مسرحه أن "يتنبأ"، أن يكون معبّراً عن التحولات ومستشرفاً للآتي، وصادماً وتحريضياً ووقحاً ومتحدياً، مع مقدرة فذة على الإقناع، وعلى ابتكار لغة تقول، بتكثيف بالغ، الأحوال والتحولات الإجتماعية والسياسية.

كان هذا محل إجماع تقريباً حول فنه، لبنانياً وعربياً. ولا مرة ظهر جمهور مضاد له، ولا تكون رأي عام ضده. حتى في عز الحرب الأهلية، كان جمهور خصومه السياسيين شديد الإعجاب به، ويتغاضى عن عداءه السياسي.

فقط في السنوات الأخيرة، باتت النقمة عليه واضحة من شريحة كبيرة من اللبنانيين. هي نقمة بدأت نخبوية في منتصف التسعينات، وتوسعت جداً بعد العام 2005. وهي اليوم تحاصره. لم يعد زياد الرحباني فوق النقد، ولم تعد عادة مسامحته أو غض الطرف عن أخطائه محتملة. فما الذي فعله زياد؟

يمكن إيجاد الجواب في مسرحه هو بالذات، طالما أنه المكان الذي يتصف بـ"التنبؤ". بل يمكن القول أن مسار مسرحياته هو مسار زياد الشخصي ومآله النهائي. ففي العام 1974، كانت مسرحية "نزل السرور"، التي هي بمثابة زلزال مسرحي وسياسي ولغوي، سيطيح بكل الطمأنينة الكاذبة، وسيكشف عن الصدوع العميقة في مجتمع لبناني ذاهب لا محالة نحو الإنفجار. وعدا عن الكوميدية السياسية السوداء وبراعة الموسيقى وكلمات الأغنيات وجدة اللغة المدهشة التي جاء بها إلى منصة العرض، والشخصيات الحية، قدم الرحباني في هذه المسرحية نبؤته الواثقة بالحرب. وكان هو فيها يلعب دور الزوج الأبله المخدوع، السكير والمقامر. 

منها، وفي العام 1978، بعد أن انقضت "حرب السنتين" (1975-1976)، بات الحال في لبنان أشبه بالمستنقع. الجميع اصطدم بجدار الواقع واللاحسم. الجميع منهك، والحياة تستمر بين المعارك المتقطعة والفوضى والإنهيار الأخلاقي والإقتصادي. السياسة غارقة في الوحل. "منظمة التحرير" متورطة في النزاع الطائفي اللبناني، محاصرة هي واليسار اللبناني بالإحتلال السوري من جهة، وبالغزو الإسرائيلي الأول لجنوب لبنان من جهة ثانية، الإنقسامات الطائفية تزداد تذرراً. في هذه اللحظة يأتي سؤال زياد الرحباني في محله: "بالنسبة لبكرا، شو؟". تطرح هذه المسرحية الإنحلال الأخلاقي، وغياب الأفق، والمأزق المعيشي وغياب الأمان، وتهافت الشعارات أمام حقارة الواقع. أعلن هزيمة الجميع في الحرب. وكان هو فيها يلعب دور رجل باع كرامته، يعمل ساقياً في حانة و"يشغّل" زوجته!

بعد هذين الدورين، سيصير زياد في "فيلم أميركي طويل" (1980)، المجنون – الحكيم، في مستشفى مجانين هو مصغر البلد وأحواله. أعلن أن لا شيء منطقي ومعقول. لبنان بات عالقاً في الجنون واللامعقول.. وبلا أمل أو شفاء. وصلت اللغة إلى منتهاها، تحطمت ولم تعد قادرة على فهم الواقع. مأزق زياد لا حل له سوى بالهروب إلى الجنون. لم تعد الأيديولوجيا ولا الأفكار السياسية الكبيرة قادرة على تفسير الحال. كانت المسرحية إدانة مبكرة لكل المشاركين في الصراع. لقد انتهى كل شيء وفقد معناه.

هذه قوة زياد الرحباني "التنبؤية". وسرعان ما سيذهب في العام 1983، مع مسرحية "شي فاشل" نحو إعلان فشل الكيانية اللبنانية برمتها، فشل "الصيغة التاريخية" للوطن اللبناني، بالتوازي مع تحطيمه وسخريته المهدِّمة لكل المسرح الرحباني- الفيروزي، بوصفة الرديف الفني للهوية اللبنانية وخطابها. كانت مسرحية النهاية، إذا صح التعبير. لكن ما حدث في هذه المسرحية أيضاً، أنها لم تعبر عن الفشل، بل كانت هي نفسها فاشلة. بمعنى أن نصاب لغته ومصدر خياله، ومرجعيته النقدية كانت هي بدورها قد تحطمت كلها. كان الإجتياح الإسرائيلي عام 1982، قد أطاح باليسار اللبناني وبمنظمة التحرير الفلسطينية، عدا عن تدميره الهائل للمجتمع والعمران في لبنان، ووتسببه لانهيار شامل في المنظومة السياسية والإقتصادية. خسر زياد الرحباني نصاب "الحركة الوطنية" (في الثقافة وفي الوعي)، فلم يعد بمستطاعه أن "يؤلف". كانت مسرحية الفشل عن الفشل. وكان فيها يلعب دور مخرج مسرحي فاشل وساذج فاقد للخيال؟!

لهذا السبب، لم يستطع أن يعود إلى المسرح إلا في العام 1992، في "بخصوص الكرامة والشعب العنيد". وهي ستكون هذه المرة أشبه بهجوم غادر وناقم. كان رافضاً وحاقداً على ما هو آت. خائف حتى العظم، مما يحمله زمن ما بعد الحرب. كانت علامات الرهاب واضحة. سيكشف على المسرح خسارته لتلك المقدرة على توليف لغته ونكاته وحواراته اللاذعة. التأتأة والعيّ وامتناع العبارات ستكون هي موضوعته. حتى الموسيقى كانت متكسرة وتائهة. ستتحول نقمة زياد لأول مرة إلى عداء لـ"الشعب"، ونقداً تائهاً لا هدف له سوى الإستنكار والرفض للوقائع، طالما أيضاً أن الإتحاد السوفياتي انهار وتبدد حلمه الشيوعي معه. كانت فوبياه مرهقة، ولن يجد مهرباً منها إلا أن يتحول إلى ضابط نازي، في المسرحية، سرعان ما سيترجم ذلك في الواقع إلى علاقة حميمة مع النظام العسكري المخابراتي اللبناني – السوري، ويتفاقم خوافه المرضي تباعاً.

سترتسم الهوة أكثر بينه وبين جمهوره في مسرحية "لولا فسحة الأمل". هذه المرة أيضاً النقد الثقافي لا يرحمه، ما يفاقم من شعوره بالإضهاد. الفوبيا تتفاقم، ونقمته تتزايد، ولغته توغل في كسورها وخسارة لمعانها ولمحاتها. سيتحول إلى شيوعي عنيد ومكابر، تماماً كما حزبه، وسيصير أكثر قابلية للإلتحاق بوضاعة وللتبعية والإنتهازية بمنظمومة الوصاية السورية – الحزب اللهية.

انتهى مسرح زياد الرحباني منذ ذلك الحين، وبقيت مسرحيته الشخصية مستمرة، وها هي اليوم فرجة للجميع وهم يرونه قافزاً بين التضرع لحسن نصرالله، والإستجداء من سعد الحريري، أو الهروب إلى تلفزيون فلاديمير بوتين. مسرحية لا تثير الضحك ولا الإعجاب ولا الشفقة.

 

       

 

المساهمون