"خطة الحصن"... وسيلة روسيا لقمع الرأي الآخر

"خطة الحصن"... وسيلة روسيا لقمع الرأي الآخر

07 فبراير 2020
لا يستبعد خبراء استعمال القانون ضد المعارضين (سيرغي سافوستيانوف/تاسّ)
+ الخط -
كشف تقرير، نشرته مجموعة "أغورا" الدولية لحقوق الإنسان بالتعاون مع مؤسسة "روسكومسفوبودا" الروسية المعنية بمراقبة حرية الوصول إلى الإنترنت والمعلومات، عن تصاعد ممارسات السلطات الروسية لتقييد حرية الرأي وحجب الوصول إلى المعلومات التي لا تتماشى مع سياسات الدولة، وتوجهات النخب الحاكمة. ورصد التقرير الذي صدر منذ أيام، تحت عنوان "حرية الإنترنت 2019: خطة الحصن"، زيادة حالات حجب المواقع والصفحات "المتطرفة التي تروج للإرهاب"، والملاحقة القضائية من قبل السلطات للناشطين السياسيين على شبكات التواصل الاجتماعي، ووسائل الرقابة على وسائل الإعلام، والقيود المفروضة لمنع الوصول إلى المحتوى، واحتجاز الصحافيين والمدونين، وكذلك التهديدات الموجهة إليهم والضغط عليهم من قبل ممثلي السلطات.

وأوضح التقرير أنه في العام 2019، تم تسجيل 438 ألفا و981 حالة تدخل في حرية الإنترنت في روسيا، ارتبطت أكثر من 434 ألف حالة منها بتقييد الوصول إلى المواقع والخدمات، وفرض حظر على المعلومات لأسباب مختلفة. ومقارنةً بالعام 2018، زاد عدد حالات حظر المعلومات من قبل هيئات الدولة أكثر من الضعف (272.7 ألف حالة للأشهر التسعة الأولى من عام 2019 مقارنة بـ 161 ألفًا للعام السابق بأكمله). كما زاد عدد الهجمات السيبرانية على المواقع المعارضة (32 مقابل 20) وارتفع عدد القضايا المرفوعة من قبل الدولة ضد مواطنين بسبب طريقة استخدامهم للإنترنت (79 مقابل 58).

تحتلّ روسيا مواقع متأخرة في تصنيفات المنظمات الدولية لحرية الرأي والصحافة، فوفقاً لمنظمة "مراسلون بلا حدود" شغلت روسيا في العام 2019 المركز 149 في تقييم حرية الصحافة، وحلّت بين وفنزويلا وبنغلادش. كما تواصل منظمة "فريدوم هاوس" وصف روسيا للسنة الخامسة على التوالي بالدولة الخالية من حرية استخدام الإنترنت بسبب حظر المستخدمين واعتقالاتهم.

وتطرق التقرير إلى "الاستخدام الخبيث" لقانون الإنترنت الروسي المستقل "رونيت"، والذي دخل حيز التنفيذ في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وهدفه "تنظيم وحماية الإنترنت في روسيا من التهديدات الخارجية" في حال قررت الدول الغربية فصل روسيا عن الشبكة العالمية، الأمر الذي يعتبره خبراء "أغورا" و"روسكومسفوبودا" مبرراً لتعزيز رقابة الدولة، خاصة في ظل عدم ذكر التهديدات التي سيتم استخدام القانون لمواجهتها.

واُستخدمت كلمة "الحصن" في عنوان تقرير المؤسستين الحقوقيتين الروسيتين، للإشارة إلى "نوع جديد من القيود"، يتمثل في منع وصول المستخدمين إلى الإنترنت في الحالات التي تقررها السلطات، وهو ما تم اللجوء إليه بالفعل أثناء احتجاجات في جمهورية إنغوشيا (جنوب روسيا)، وأثناء تجمع احتجاجي في موسكو وفي حالات أخرى، قطعت فيها شركات الاتصالات الإنترنت الخلوي عن المتظاهرين، بناءً على طلب من مسؤولي الأمن.

ولا يقتصر التضييق على الحريات في روسيا على الصحافة والمدونين، بل يطاول أيضاً كل منتقدي السلطات أو المسؤولين في وسائل التواصل الاجتماعي. وفي العام الماضي، رفعت 78 قضية ضد مواطنين روس بتهمة "إهانة السلطات"، كان للقضايا المرفوعة بحجة "إهانة للرئيس فلاديمير بوتين" نصيب الأسد بواقع 44 قضية، في حين حوكم 6 أشخاص آخرين انتقدوا قيادات الأجهزة الأمنية. ودخل القانون الذي يحظر إهانة السلطات حيز التنفيذ في 29 مارس/ آذار 2019، ويحظر نشر معلومات تهين المجتمع والرموز الرسمية الروسية والدولة والحكومة، ويواجه مخالفوه غرامة تتراوح بين 30 و100 ألف روبل (500 و1600 دولار)، وفي حال تكرار الجرم - تكون الغرامة بين 100 و200 ألف روبل أو السجن.

ومن اللافت أن بوتين أشار في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي إلى أن القانون المذكور لا يهدف لوقف الانتقادات تجاه السلطات و"إنما لحفظ كرامة رموز الدولة"، موضحاً أن "كل دولة متحضرة تحمي نفسها من إهانة الرموز الوطنية"، مستدركا "يجب الحفاظ عليها (الانتقادات بحق السلطات)، لتكون أداة فعالة لتحسين أداء الحكومة نفسها". لكن محكمة روسية بعد فترة قصيرة من تصريح بوتين، قضت بتغريم الخبير في العلوم السياسية وكاتب عمود للرأي في صحيفة "فيدومستي"، فيدور كراشينينيكوف، بمبلغ 30 ألف روبل، عقوبة على "إهانة السلطات" في تعليق نشره عبر "تلغرام"، انتقد فيه القضاة الروس لتعاملهم مع قضية مدير صندوق مكافحة الفساد المعارض، ليونيد فولكوف.
وتحذر المنظمات الحقوقية الروسية من أن السلطات لم تعد تنظر إلى تقييد حرية التعبير كتدبير يتم تطبيقه في الحالات القصوى، بل أصبح أمراً اعتيادياً، تمارسه الدولة يومياً عبر حظر المواقع ومضايقة المستخدمين، وتقييد حقوق وسائل الإعلام "كأداة للنضال السياسي وضرورة مشروعة لمواجهة الغرب في حرب المعلومات"، مشيرةً إلى أن "السلطات الروسية أعلنت الإنترنت الروسي بأكمله حصناً منيعاً محاصراً".

وبات واضحاً أن السلطات الروسية تنظر إلى معارضيها في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي على أنهم "طابور خامس". ففي السنة الأخيرة أقرت تشريعات جديدة، وشددت تشريعات سابقة لكم الأفواه، وفي 25 نوفمبر/تشرين الثاني، صادق مجلس الإتحاد (مجلس الشيوخ) الروسي على تعديلات تتيح اعتبار أي مدون أو صحافي "عميلاً أجنبياً" في حال كانت منشوراته أو آراؤه "تخدم أجندة معادية". ونصّت تعديلات القانون على اعتبار أي شخص يعيد نشر أو يشارك في إعداد مواد إعلامية لوسائل إعلام تحمل صفة العميل الأجنبي "عميلاً أجنبياً". واللافت أن القانون يدرج أيضاً ضمن تصنيف العميل الأجنبي الأفراد والمؤسسات في حال تلقيها أموالاً من الخارج أو من كيانات قانونية روسية ممولة كلياً أو جزئياً من مصادر أجنبية.

ورداً على إشارة صحافيين إلى أن القانون الجديد سيطاول عدداً ضخماً من الأشخاص الذين يعملون في وسائل إعلام تعتبرها السلطات الروسية "عميلاً أجنبياً"، أوضح رئيس لجنة سياسة المعلومات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الدوما، ليونيد ليفين، أن الأمر سيتم التعامل معه "من وجهة نظر أنشطتهم"، مضيفاً أن "الأشخاص الذين يكتبون مواد إعلامية ذات صلة بالحالة الاجتماعية والسياسية، معرّضون بالطبع لخطر إدراجهم تحت بند العميل الأجنبي".
وجاءت هذه التعديلات استكمالاً لقانون مثير للجدل أقره البرلمان الروسي في 2014 بحق مؤسسات المجتمع المدني التي تحظى بتمويل خارجي، وتم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 توسيعه ليشمل وسائل الإعلام الأجنبية العاملة في روسيا، رداً على طلب واشنطن من قناة "آر تي" وموقع "سبوتنيك" الروسيين الخضوع لقانون أميركي أقر عام 1938 لمواجهة الدعاية الموالية للنازية حينذاك، على خلفية اتهام السلطات الأميركية القناة بالمشاركة في التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية في 2016.

وحينها، جاء الرد الروسي صاعقاً باتساعه وشموله، ولم يقتصر القانون الموسع في العام 2017، والذي بات يعرف باسم قانون "العملاء الأجانب" على مواجهة إذاعتي "صوت أميركا" و"أوروبا الحرة" المدعومتين من الولايات المتحدة وسبع مؤسسات إعلامية أخرى متهمة بالولاء لـ "أجندة أجنبية"، لكنه بات يضع جميع وسائل الإعلام المسجلة في روسيا، والتي تحصل على تمويل كلي أو جزئي من خارج البلاد، في خانة "العملاء الأجانب"، ما يجبرها على تقديم كشوف خاصة عن نشاطها والخضوع لرقابة دائمة، وقد يطلب منها بموجب القانون الوفاء بمتطلبات إضافية إذا شعرت السلطات بالحاجة إليها.

رغم أنّ نائب رئيس الدوما الروسي، بيوتر تولستوي، شدد نهاية العام الماضي على عدم النية في استخدام القانون للتضييق على وسائل الإعلام، مؤكداً أنه "لن يؤثر في حرية التعبير في بلادنا بأي صورة من الصور"، إلا أنّ التعديلات القانونية الجديدة تمنح أجهزة الدولة حق تصنيف الأفراد كجهة تؤدي وظائف عميل أجنبي، وإنشاء دائرة تحتفظ بسجلات وبيانات عنهم وعن أنشطتهم، كما تجبر الجهات والأشخاص الذين تعتبرهم الحكومة الروسية "عملاء أجانب"، على الإشارة في منشوراتهم عبر الإنترنت أو وسائل الاعلام الأخرى دائما إلى أن هذه الجهة أو هذا الشخص "عميل أجنبي"، الأمر الذي سيدمر مصداقيتهم في نظر غالبية المواطنين الروس البسطاء.

ولا يستبعد خبراء ومحللون أن يتم استخدام القانون ضد معارضين تعتبر الحكومة منشوراتهم "تهديداً للاستقرار في البلاد"، مثل المعارض البارز أليكسي نافالني وزميلته المحامية ليوبوف سوبول، وغيرهما ممن تتهمهم السلطات بالعمل وفقاً لأجندات غربية وبتمويل غربي.
ويبدي مزيد من الروس في الآونة الأخيرة استياءً واضحاً تجاه النزعات القمعية التي تطغى على قوانين المشرعين الروس، الساعية لإسكات الرأي الآخر وتكميم أفواه المعارضين وتجريمهم.

وتترافق حملة السلطات الروسية ضد "الطابور الخامس" و"العملاء الأجانب" بدعوات من أعضاء في المجلس الاشتراعي إلى اعتماد قانون ينص على جعل استخدام الإنترنت متاحاً فقط لمن يبرزون بطاقة هويتهم ويكشفون عن معلوماتهم الشخصية كاملة أمام أجهزة الدولة، في حين يدعو مشرعون آخرون إلى فرض عقوبات جنائية على مروجي الدعوات للحملات الاحتجاجية عبر الإنترنت، بعدما قالت لجنة خاصة في البرلمان إن هناك "معسكرات" افتراضية تنشط في روسيا للتدريب على تنظيم الاحتجاجات وطالبت بإقرار قانون جديد يشدد العقوبات على منظمي الاحتجاجات غير المرخص لها.